في مطالع السبعينات، وإثر عودته إلى مدينته دمشق بعد سنوات من الغياب عنها، ألقى شاعرنا نزار قباني (الذي تمر هذا العام مئوية ولادته) واحدة من أجمل قصائده طالباً في مطلعها من مدينته الحبيبة مجانبة العتاب فقال:
فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا
غير أن الشاعر عاد بعد بضعة أبيات ليعاتب أمته بأكملها على الحال الذي وصلته أمام عدو اغتصب أرضها وشرد أبناءها مستنكراً الاستكانة لفعل الزمن القادم من منطلق الزمن الغابر:
وقرؤوا كتب التاريخ واقتنعوا
متى البنادق كانت تسكن الكتبا؟
لكن ما يصح في الشعر لا يصح دوماً في غيره، وما يجوز للشاعر لا يجوز لسواه فإذا كانت البنادق لا تسكن الكتب، فإنما تسكنها روح الأمة وثقافتها وخلاصة معرفتها وتجاربها، وقد تكون أهم ما تملك، فالأرض تسلب وتحرر، والناس يستشهدون لأجلها ويأتي بعدهم من يكمل غايتهم، لكن فوز العدو، وخسارة الأمة يتحققان حين ينفصل الأبناء عن ذاكرة الآباء، فتضيع التضحيات، وتضيع الأرض، ويضيع المستقبل.. ليس المهم في الذاكرة – التاريخ – حكاياتها، وإنما العبر من هذه الحكايات، ويوم تزيد الصعاب، وتشتد الأزمات، كم يصبح مهماً استعادة وقائع تاريخ الأمة وعبرها، وإحياء روحها، وإدراك أن زمننا الراهن ليس أسوأ أزمانها، فقد شهدت ما هو أسوأ منه، وعرفت كيف تتجاوز المحن وتتخطى الكوارث، وتطرد الغزاة منها وتسترد الأرض منهم ..
يدرك العدو معنى أن تبقى ذاكرة الأمة نضرة، لذا يجهد بكل ما يتوفر له من سبل لإخمادها، وتزويرها، كما فعل الإسرائيليون في الذكرى المئوية الثامنة لمعركة حطين، حين عقدوا مؤتمراً(علمياً) في جامعة القدس المحتلة دعي إليه علماء تاريخ من دول مختلفة (ومنها عربية) للبحث فيما أسموه (دور الكتيبة اليهودية في تحقيق النصر في حطين إلى جانب المسلمين).. وإذا كان من نظم المؤتمر أراد تثبيت فكرة أن اليهود هم جزء من نسيج هذه المنطقة لتحويل هذه الحقيقة باتجاه إعطاء كيانهم الاستيطاني شرعية الوجود هنا، فإن الحقيقة الأساسية التي سعى أساساً إلى إخفائها أن اليهود الذين كانوا في ذلك الزمان والمكان هم يهود عرب، لا مغتصبين غرباء قدموا من بلدان بعيدة، وقد تعرض هؤلاء اليهود العرب كسواهم من أبناء المنطقة إلى المجازر المروعة التي ارتكبتها جيوش الحملات الفرنجية الغازية، والمهم تذكر حرص المؤرخين العرب المعاصرين لها على حرمانها من أي صفة قدسية، وإصرارهم على تسميتها بحروب الفرنجة لا الحروب الصليبية، كما سميت بعد ذلك بوقت طويل، ذلك أن ضحايا هذه الحروب كانوا سكان البلاد جميعاً على اتساع طيفهم الديني من مسلمين ومسيحيين ويهود، وطيفهم القومي من عرب وسلاجقة وأكراد وأرمن وشراكسة، كما هو حال ضحايا الكيان الصهيوني الذي ارتكب منذ نشأته الجرائم بحق الجميع بمن فيهم اليهود العرب الذين أكرهوا على مغادرة بلدانهم – في العراق خاصة – بعد العمليات السرية للوكالة اليهودية التي فجرت القنابل في بيوتهم وأماكن عملهم ودور عبادتهم..
لم تكن معركة حطين أول مواجهة باسلة لأبناء المنطقة مع الغزاة، فقد سبقتها الكثير من المعارك البطولية التي وإن لم تحقق النصر الحاسم فقد مهدت له، وفتحت الطريق إلى تحرير القدس، ومن ثم استرداد كامل الأرض من الغزاة يوم استفاقت الأمة من غفوتها، وتحررت من فرقتها وتشرذمها، كانت هذه إحدى عبر التاريخ التي يدركها العدو ويعمل كي ننساها، لكن في الأمة من يتذكر جيداً ويحفظ دروس التاريخ ببراعة، وإذا كانت حروب التحرير ضد الفرنجة قد استغرقت نحو قرنين من الزمان، فإن الانتصار النهائي على الفرنجة الصهاينة سيحتاج وقتاً أقل بكثير، ولا ننسى أن كيانهم الغاصب المدجج بدعم غير مسبوق، لم يرهب تفوقه العسكري الأمة فلم تستكن إلى كبوة وبقيت تبتكر أشكال المقاومة جيلاً بعد جيل، لتحقق في يوم غير بعيد هدفها المقدس، هو اليوم الذي سترتاح فيه روح شاعرنا وهي ترى أن البنادق قد سكنت الكتب.