الثورة – إعداد ياسر حمزه:
عاش وعاش ، ثم غاب؛ تداعى من وجوده العالي , مُعلَّقاً في الهواء، رانياً إلى السماء، ملتقطاً موجات الفضاء، ثم انهال وتهشَّم مرة واحدة، لتظل أصواتٌ وصورٌ بعيدةٌ، لوقائعه وحكاياته مرتاحةً في الذاكرة، هانئةً في بال العمر الفائت.
إنه هوائي التلفزيون، الذي رافقنا فصولاً يانعةً وشغوفةً من حياتنا، يوم كانت الحياةُ ، بتفاصيل أقل اكتظاظاً، أكثر استرخاءً، أوسع مدى، أرحب أملاً.
في زمن الهوائي السحيق، صنع الهوائي ذاك الهيكل المعدني الهزيل المنصوب على الأسطح كفزاعات في حقول برية.
كانت الفرجة الغابرة محصورة بقناتين تلفزيونيتين، وربما استلفنا شيئاً من صور مشوّشة من محطات الدول التي تحتكّ حدودها بحدودنا، المجاورة لفرجتنا، وذلك حسب قدرة الهوائي ,هذا الاختراع السحري وفق تصنيف أزمنة طفولة المعرفة ,على التقاطها ؛ كذلك حسب مزاج الطقس النّزق، فإذا ما تشتّت الصورة وشتّ الصوت وضاعت الحكاية وسط سحابة من الغبش، عهدنا بأحد كائنات البيت، مشهودٌ له بالرشاقة والخفّة والبداهة، كي يصعد إلى السطح ليحرّك الهوائي المتمنّع ويضبط مزاجه المتقلقل.
ثم يبدأ ذاك المشهد الحياتي المتواتر, يتدلّى أحدنا من نافذة إحدى الغرف ، يمط رأسه إلى أقصى ما يتيحه العنق المشرئب نحو الأعلى، مُعطياً تعليماته لكائن الهوائي على سطح المبنى محدود الطوابق، صائحاً «حرِّكه في الاتجاه الآخر» ,ثم يهبط صوت كائن الهوائي من فوق متسائلاً ,«هل جاءت الصورة؟»، فيرد نصف الجسم المعلَّق, «ليس بعد ,حرِّكه إلى اليمين»، فيحركه كائن الهوائي إلى اليمين ,«والآن؟!» ,فيأتيه الجواب, «هكذا أفضل، حرِّكه أكثر.. توقفْ ,لقد جاءت الصورة» .
ولا يبدو أننا نشعر بالحرج أو نظن للحظة أننا نسبب الإزعاج لغيرنا، ذلك أن كائناً هوائياً آخر قد يتقاسم وكائننا السطح والصياح، متبادلاً التعليمات مع جسم معلَّق آخر.
ففي كل البيوت ثمَّة فرجة عالقة في الجو لم تصل لسبب أو لآخر على شاشة التلفزيون، وكائنات هوائية تضبط الهوائيات الشبيهة بفزاعات حائرة، ونوافذ مفتوحة على أنصاف أجسام مشرئبة، مستسلمة لقدر البحث عن صورة مراوغة.
رحل الهوائي, لم نعد نذكر هذا الذي كنا نسميه «الأنتين» أو «الإيريال»، و برحيله كأن خيالنا الشخصي تقلّص وكأن حياتنا انكمشت هناءتها.
ففي زمن الصورة المحدودة أو المهدّدة بالغبش الفجائي وربما الزوال، كنا نعانق الشاشة بعيون عطشى، وآذان لا تحيد عن الإصغاء.
علَّمتنا تلفزيونات الهوائي طقس الفرجة الأصيلة، الفرجة التي تبدأ بوقت محدد في اليوم وتنتهي في ساعة تتخطى انتصاف الليل بقليل، تعقبها موسيقى الوداع، والـ «الششششش» المميزة لانقطاع البثّ المقنَّن، وبالتالي كان علينا إذن أن نَعُبَّ منها قدر ما تستطيع، بقدر ما تقدِّمه لنا.
في زمن الهوائي، كان الخيال الآتي من الشاشة محدوداً، يسيراً، لكنه كان معقولاً لتحفيز خيالاتنا الفردية التي تجتهد كي تكون وتتكوّن بطريقتها.
اندثر الهوائي ، والصورة التلفزيونية أضحت اليوم نقية في زمن الفضاء المعبّأ بقنوات محسّنة، متدفقة، لا يعترض موجاتها مزاج الطبيعة المتقلِّب.
ومن قناتين يتيمتيْن في ماضينا، الى مئات القنوات، التي لا تنام، وملايين الصور السريعة والأصوات الهادرة التي نبترها إذ ننتقل بقلة صبر وكثير ضجر من قناة لأخرى، في فرجة متلعثمة متعثرة.
مضى الهوائي. استرخت كائنات الهوائي, والحياة لم تعد هانئة.
