كثيرون منكم لا يعرفون معنى السلال المصنوعة من نبات القصب التي كانت تتدلى من شرفات البيوت بكثرة في شوارع بيروت وضواحيها في ستينات القرن الماضي وما قبل ، كما إنكم لم تستمتعوا بالكثير من القصص والفكاهات التي كانت تحملها تلك السلال ، عندما كانت وسائل الاتصال في مرحلة بدائية، ولم يكن جهاز الهاتف بمتناول الكثيرين ، حتى أنه كان من الهيبة بمكان أن البعض لم يكن يجرؤ على لمسه أو رفع السماعة حين يصدح جرسه برنين عال يمكن سماعه لعشرات الأمتار، فكانت السلال تلك تقوم مقام الهاتف في ذلك الزمن الهادئ.
ليست بيروت وحدها التي كانت تتميز بتلك الميزة ، فقد كانت منتشرة في الكثير من المدن لكنني عايشتها بطفولتي في منطقة برج حمود وغيرها من أحياء العاصمة اللبنانية في زمن زهوتها وأنوارها، فيما شاهدت بعضاً منها في أفلام مصرية ، لكن بصورة أقل انتشاراً.
والسلة التي أقصدها واسطة نقل المواد التموينية من المحال والحوانيت قبل انتشاروظيفة توصيل الطلبات من المخازن والمحال التجارية الكبرى من خلال الأشخاص ، ففي كلّ بناء في ضواحي بيروت كان يوجد محل للبقالة ، وكانت سيدة المنزل تربط سلتها من شرفة شقتها بحبل يصل إلى مستوى الشارع تقريباً ، وتضع في السلة قطعاً من النقود مترافقة مع ورقة كتبت عليها احتياجاتها من المواد التموينية ، ليأخذها البائع ويملأ السلة بتلك البضائع المطلوبة لترفعها السيدة من دون حاجة إلى النزول والصعود على الأدراج .
كانت السلال تتحرك في الهواء متقابلة في شوارع الأحياء الشعبية ، حيث تنتشر المحال التجارية بكثرة ، وتتناول سيدات البيوت أحاديث مسموعة للمارة والجوار غالباً ما تكون عن مشتريات كلّ واحدة وتقديم بعض النصائح عن الأنواع وأيها أفضل وأرخص وأكثر لذة وأطول بقاءً ، وحين كان يتأخر البائع عن استلام الطلب عبر السلة ، تبدأ عملية تحريكها وشدّ الحبل في كلّ الاتجاهات بحركة غاضبة يستقبلها البائع بردود مختلفة ما بين الرضا أو المحاباة أو الغضب والتهديد والوعيد ، لتنتهي أي مجادلة بهدنة متجددة وأصوات متداخلة بالتوفيق بين أطراف الخلاف.
ولعل أكثر الأحداث طرافة بهذا الصدد تعلق بعض الصغار بحبل السلة وبدء التأرجح به وسط صراخ سيدة الشرفة وتوعدها بالويل والثبور وعواقب الأمور بإيصال شكواها للمعلم أو ناظر المدرسة فيما إذا كانت تعرفه.
وقد تكون الطرفة مؤلمة عندما يقدم أحد الأشقياء على الاستيلاء على محتويات السلة من النقود ويبتعد بها أو يسرقها ويهرب مستغلاً التغطية الطبيعية بفعل الشرفات الممتدة أبعد من الجدران ، فتكون الفاجعة ويعلو الصراخ وطلب النجدة من الشرفات المقابلة لمعرفة السارق واسترجاع المبلغ المنهوب .
أو تبدأ عمليات اللطم على الخدود لتلك التي خسرت ليراتها المعدودة ، أو حتى قروشها ، لتبدأ بعدها بتغيير خطّتها وطريقة تعاملها مع البائع ، فتنتظر خروجه للإمساك بالسلة المدلاة فترفعها وتضع مالها به وتعيدها سريعاً في عملية مشفوعة بالدعاء والاعتذار .
ذلك زمن مضى في عاصمة كانت – وربما لا تزال- تعج بالكثير من الحركة ، وكانت مدينة لا تنام كلها ، وسطها وأحياؤها ، وتنبعث الأنوار من كلّ جنباتها ، وإلى جانبها جبل تنبعث من الأنوار طوال الليل كشجرة الميلاد ، وهي السيارات التي كانت تتحرك بلا انقطاع فيبدو ضؤها حيناً ويخبو حيناً آخر بين الأشجار التي تجعل أضواء السيارات تعزف نغمات بيانوعلواً وهبوطاً.
تلك أيام محفورة في ذاكرة أطفال ذلك الزمان يحملونها ذكريات طيبة في وقت يحتاجونها كثيراً .