محمد شريف جيوسي ـ كاتب أردني:
يطرح الصمود الفلسطيني المعجزة؛ بمواجهة العدوان الإسرائيلي الصهيوني الصلف؛ المستمر ـ الراهن على فلسطين وشعبها-، بما في ذلك عرب فلسطين 1948، والمواطنين العرب السوريين في الجولان العربي السوري؛ السؤال ماذا بعد، هل سيستمر الدعم والرعاية الأمريكية الغربية الكندية لهذا العدوان، الذي بدونه ما كان ليستمر أكثر من أيام، وسط ما تؤشر عليه المعطيات على الأرض من عدم إمكانية الاستسلام لهذا العدوان الأسطوري في قبحه.
غني عن القول أن هذا العدوان، لم يمنح إسرائيل الصهيونية حتى الآن ولا داعميها نصراً أو شبه نصر، بل فشل مشهود، فكثافة القتل للأطفال والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى والمسنين والطواقم الطبية؛ والمصلين في دور العبادة أو القائمين على الخدمة العامة، لا يحقق نصراً مع استمرار الصمود والعمليات المقاوِمة المدروسة جيداً والمسنودة من المقاومات اللبنانية والعراقية واليمنية ضد أهداف عسكرية وإستراتيجية صهيونية غير مدنية، الأمر الذي استدعى ويستدعي تعاطف شعوب العالم، بل وحتى في الغرب وأمريكا وكندا وتركيا ودول عربية، ولدى دول لها أفضل العلاقات مع العدو.
لقد وصل الحد بقيادات سياسية في الدول آنفة الذكر، كفضح تواطؤ أردوغان مع العدو، ومن تساؤل غير مسبوق في ألمانيا لأول مرة (إلى متى ستظل “إسرائيل” والصهيونية تبتزنا لدفع المزيد من أموال دافعي الضرائب)، وغير ذلك كثير.
إن من أهم تداعيات ما جرى ويجري هو استيقاظ العالم على حقيقة إسرائيل والصهيونية وعلى مدى عدوانية وعنصرية الغرب وإيغاله في دعم الظلامية الإسرائيلية؛ الآخذة بمزيد من التطرف والعنصرية والتضاد مع الحضارة الإنسانية المتمدنة؛ وعشق سفك الدم، كلما استطال بها الزمن واستدام دعم حلف النيتو والـ 7 “الكبار” لها.
وبالتزامن والتوازي، تستفحل أزمات إسرائيل الداخلية، وتتعمق حماقات قياداتها بدءاً بنتنياهو وليس انتهاء به، ويختار أغلب المستوطنين الإسرائيليين حتى بمقاييسهم، من يعجل بنهاية سعيدة لكيانهم الغاصب، فبنهاياته تنعم المنطقة والعالم بالسلم والأمن والعدل والاستقرار والدعة، فلو دققنا في المبعث الحقيقي لحروب العالم بدءاً بالحرب العالمية الأولى في مطلع القرن الـ 20، لوجدنا أنه كان للصهيونية يد فيها والمستفيدة الأولى فيها من نتائجها، وكذلك كان حال “العالمية الثانية”.
بل كانت مصالح “إسرائيل” وبالتالي الغرب، أو مصالح الغرب وبالتالي “إسرائيل” ـ تتحقق في الحروب، كحرب أفغانستان الأولى ضد الاتحاد السوفييتي، لإشغال الإسلام السياسي العربي عن القضية الفلسطينية وإنهاك الاتحاد السوفييتي ما يخل بميزان القوى العالمي لصالح الغرب و”إسرائيل”، ومهد الأرضية للربيع العربي وما استجر من خلافات مذهبية وطائفية وإثنية.
واستهدفت حرب أفغانستان الثانية التي كانت في ظاهرها ضد حركة طالبان؛ التي هي من أهم تفريخات الحرب الأفغانية الأولى، لخدمة الحرب الأمريكية بالنيابة ضد السوفييت، بالمال والدم العربي والإسلاموي؛ وبالسلاح والتوجيه الأمريكي، ولكن في الحرب الثانية كانت بيئة مواتية لتخليق صراعات دينية ومذهبية وعرقية وإثنية على مقربة من الصين (الأيغور) وإيران التي طالما أتعبت الغرب، وروسيا (الشيشان) بحيث تنشغل الدول الـ 3 في أزمات داخلية طاحنة وإقليمية، عن التطور وعن دورها المتعاظم في الشرق الأوسط وفي مناطق أخرى من العالم، وبالتالي تقديم خدمة لإسرائيل.
وكان انسحاب أمريكا من أفغانستان، الذي خاله (بعضنا) زهواً هزيمة مدوّية لأمريكا، فيما لم يكن نصراً ولا هزيمة، وإنما تطبيق للمرحلة الثالثة من حروب أفغانستان، سيأتي دوره لاحقاً وليس ببعيد.
أقول إن سياسة الحروب أولوية غربية وأمريكية بخاصة، فاستمرارها يشغّل المجمّع الصناعي العسكري الأمريكي، ويضمن تدفق الأموال الطائلة للشريحة الحاكمة العميقة في أمريكا، من أرباح صناعاته التي يبيعها للدولة الأمريكية وللعالم بأضعاف أثمانها، كما يضمن بما يصنع ويمتلك من أسلحة؛ إخضاع العالم لسيطرة البنتاغون بما في ذلك أوروبا التي هي أكبر مستعمرة أمريكية في العالم مزينه بثياب (الديمقراطية وحقوق الإنسان) على الطريقة الأمريكية، ويفرض هذا التفوق، استمرار الدولار كعملة قياس مفروضة على العالم، وفرض “إسرائيل” على المنطقة العربية ومحيطها لإبقائها القوة (الأعظم) سواء أكان ذلك وهماً أو حقيقة.
هذا يعني أن إلحاق هزيمة بـ”إسرائيل”، كما حدث مؤخراً، يعني إلحاق هزيمة عميقة بالطبقة العميقة الحاكمة في أمريكا، وبالتابعين الأوروبيين، ومن يسير على نهجهم.. ولذلك رأينا كيف تداعت أساطيل أمريكا والغرب للمنطقة خلال ساعات من العملية الفلسطينية ضد “إسرائيل”، والجسور الجوية التي أقيمت لدعم “إسرائيل” بكل ما تحتاجه وزيادة، وما أعطيت من فتاوى الغرب وبعض الشرق بحقها (الدفاع عن النفس) بالبطش ضد المدنيين الفلسطينيين ووهم مسح غزة، الأمر الذي أغرى وورّط الجيش الصهيوني بالدخول البري، الذي كان بمثابة أفخاخ استدرج إليها ما عمق أزمة تل أبيب وواشنطن ومن يتبع.. ومُرّغوا جميعاً بوحل غزة وأبنيتها المهدمة بفعل آلة الحرب الصهيونية، فتكبد الصهاينة المزيد من الخسائر.
وفي آن تعمق المأزق الغربي على محور تكشّف الرواية الغربية لحقيقة “إسرائيل” والصهيونية واللاسامية وأصبح من المستحيل استرجاع الرواية الكاذبة على أنها حقيقة. كما تكشفت حقيقة رواية الجيش الذي لا يقهر والسلاح الأمريكي والإسرائيلي غير المؤهل لحماية إسرائيل ولا غيرها أمام إرادة الإنسان المقاوم أياً تكون الهوية التي يحملها.. فسوق السلاح الغربي قد انكسر، ومداخيل الشريحة الحاكمة في أمريكا لم تعد واردة كما كانت سابقاً، ما سيغري الدول بالخلاص من القواعد العسكرية الأمريكية فيها، فهي لم تعد قادرة على حماية نفسها تجاه بضع مئات أو آلاف من الأشاوس، مدعومين من شعبهم مهما كان حجم الخسائر البشرية والمادية، كما هم مدعومون بتعاطف شعوب العالم ضد الهمجية الإسرائيلية، بكل ما يحتمل ذلك من تداعيات أبعد وأكثر من أن تحصى نتائجها سلباً على أمريكا وفريقها.
بهذا المعنى فإن واشنطن وفريقها الأوروبي وغير الأوروبي، باتوا أمام مأزق، وزاد الصلف الاستعماري الإمبريالي بمزيد من التورط، فالحرب العدوانية على فلسطين تتيح تحرر العالم من الهيمنة الغربية ومن أحادية القطبية ومن سيطرة الدولار كوحدة قياس ومن القواعد الأمريكية والخلاص من نصائح مؤسسات رأس المال والاشتراطات غير السوية التي تصر واشنطن على فرضها على العالم.
بكلمات صمود فلسطين كممثل لمحور المقاومة في المنطقة سيكون الطريق لتحرير العالم.. بقي أن يفهم ذلك من انجرفوا بعيداً، في اتباع ما ليس ينفعهم في المدى القريب جداً، فضلاً عما سيضرهم في المديين المتوسط والبعيد.
كما أصبح على الدول الكبرى الطامحة لنظام عالمي جديد، وإسقاط وحدانية القطبية اغتنام الفرصة المتاحة، وقد لا تتكرر بهذا الزخم والدعم الشعبي العالمي الواسع، بخاصة في حال وسّعت أمريكا ومن معها نطاق الحرب، انطلاقاً من هذه المنطقة يعاد تصويب التاريخ وتصاغ المعادلات الجديدة، فليغتنمها فرصة كل من يريد عالماً أكثر أمناً وعدلاً واستقراراً ودعة.