خميس بن عبيد القطيطي – كاتب من سلطنة عمان:
تمر الذكرى السادسة بعد المئوية لميلاد الزعيم جمال عبد الناصر وإحياء هذه المناسبات ليست تقليداً ناصرياً بقدر ما هو استئناس بتاريخ حقبة مثلت نموذجاً مشرفاً في تاريخ الأمة العربية الحديث، ورغم معركة التشويه التي نفذتها الآلة الإعلامية لقوى الاستعمار والرجعية إلا أن عبد الناصر ظل حاضراً في جميع قضايا الأمة العربية رغم مرور 53 عاماً على رحيله فما زالت صوره تتصدر الساحات في رسائل استشعارية وجدانية لأهمية زعامته وقدراته التي أهلته لتسجيل ظاهرة قيادية عربية في التاريخ العربي المعاصر.
وبالتأكيد لهذا القائد من المنجزات الكبرى في تاريخ بلده وأمته ما لا يمكن مجاراته في معايير التجارب القيادية الشاملة في الذاكرة العربية الحديثة كما سجلت تجربته خطأ استراتيجياً بإعلان الحرب عام 1967م فكانت صدمة كبرى استدعت تحولات كبرى عاجلة في القيادة وتحديث القوات المسلحة ولملمة الانقسام العربي وتوحيد الجبهة العربية استعداداً لمعركة استرداد الكرامة وخوض معركة الاستنزاف التي كبدت العدو الصهيوني خسائر هائلة خلال ثلاث سنوات منذ انتهاء حرب النكسة وحتى رحيله.
حتى أن الكيان الصهيوني عرض السلام وإعادة سيناء كاملة بأكثر من عرض لإنهاء حرب الاستنزاف والحد من التوجه العربي نحو الحرب لكن عبد الناصر رفض كل العروض مؤكداً أن المعركة هي معركة وجود لا معركة حدود وأن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة وأن الانسحاب يجب أن يشمل كل الأراضي المحتلة في يونيو 67م وهذه العروض الصهيونية للسلام موثقة وقد جاءت على لسان شيمون بيريز رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني، كما أن مصر حينها قدمت موقفا لخص إرادة القتال وهو ما طلبه الفريق عبدالمنعم رياض من الرئيس عندما كلفه رئاسة أركان حرب القوات المسلحة المصرية في أعقاب النكسة ألا يقبل «الصلح» أو استعادة سيناء دون قتال حتى لو عادت كاملة دون شروط: «أرجو يا سيادة الرئيس ألا تقبل لأنه إذا عادت سيناء بدون قتال فإن البلد كلها سوف تنهار أخلاقياً وتسقط القيم فيها» فكان رده: «لا تقلق فلن يعيدوا سيناء أبداً دون قتال، أو دون شروط».
لا يمكن الحديث عن منجزات عبد الناصر فالمنجزات خلال 18 عاماً من وجوده كزعيم لثورة 23 يوليو 1952م لا يمكن حصرها في هذا المقال وهي بلا شك متاحة لمن أراد البحث والاطلاع على التجربة الناصرية وإنصاف هذا الزعيم التاريخي أما ضحايا التشويه وذوي الثقافة السمعية وأعداء عبد الناصر فهم خارج هذا السياق، لكن الأهم من المنجزات على الأرض هي تلك الإنجازات في معركة الوعي والفكرة القومية والمبادئ الناصرية التي سجلت متلازمة لتجربته، وكرست نموذجاً كان يتفوق في التنمية الاقتصادية على قوى اقتصادية دولية كبرى مثل الهند وكوريا الجنوبية وقد أكد تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة عام 1968م المستوى التنموي المتقدم لمصر والذي بلغ 7% وهو رقم لم تستطع مصر وكثير من القوى الدولية بلوغه في ذلك الوقت وقد جاءت تلك النسبة المئوية بعد الحرب العربية الصهيونية أو ما يسمى حرب النكسة.
إذاً نحن أمام نموذج قيادة تمتلك قدراً كبيراً من الإرادة والعزيمة والتصميم لجعل مصر تتبوأ الصدارة وتنافس على العالمية، ولا شك أن كل الوثائق المسجلة للرئيس تدلل على تلك الروح الوثابة والإخلاص والاجتهاد منقطع النظير والذي يتميز بالفكر السليم وإلا لما تحقق تأميم قناة السويس بكل سلاسة وانسيابية واستمرار حركة الملاحة ولما تم بناء السد العالي بإرادة حديدية انتزعت موافقة البنك الدولي على تقديم قرض ميسر لمصر وهي بلا شك كلها معارك تضاف إلى معارك التعليم والعدالة الاجتماعية وبناء القوات المسلحة وقد تحققت.
الانطلاقة السياسية نحو العالمية لم تكن لتنتصر لولا الانتصار في جبهته الداخلية ونجاح معاركه الوطنية والتفاف الشعب حوله من المحيط إلى الخليج فقد ميزت تلك السمة الجماهيرية تاريخه وسجلت الجماهير ظاهرة عظيمة حوله لاعتبارات من الثقة المتبادلة ولرصدها الوجداني لما تجسده تجربة عبد الناصر وما يحمله على عاتقه من رسالة تجاه شعبه وأمته لذلك انتصر عبد الناصر في قضايا دولية بفعل الالتفاف الجماهيري من حوله وقد كانت قضية سفينة كليوباترا التي أوقفت في ميناء نيويورك خير شاهد على مكانته واستثماره للقوى الجماهيرية عندما أطلق نداء عبر إذاعة صوت العرب للتوقف عن شحن وتفريغ كل السفن الأمريكية فما هي إلا ساعات قليلة أجبرت الولايات المتحدة وبأمر من الرئيس الأمريكي بتفريغ وشحن السفينة كليوباترا.
نعم لقد سجل حالة من الندية مع القوى الدولية ترجمتها الكثير من الدلالات التاريخية منها العدوان الثلاثي وليس آخرها مشاركته في الأمم المتحدة عام 1960 حينما وصف الرئيس الأمريكي نيكسون مصر بأنها القوة الثالثة التي تحكم العالم كيف لا وهي تشكل عدم الانحياز كقوة عالمية في العالم الثالث.
رحم الله هذا الزعيم التاريخي الذي سجل إضاءة مشرفة في ذاكرة الأمة وتجربة ناصعة معززة بالكرامة وقيادة محورية جعلته حاضراً في ذاكرة الأمة وجميع قضاياها فجعلت الأعداء قبل الأصدقاء ينصفون تاريخه وتجربته، فما أحوج الأمة إليه في ظل هذا التمادي الصهيوني على فلسطين، كما جاء في قصيدة الشاعر نزار قباني: رفاقك في الأغوار شدّوا سُروجَهم.. وجندك في حِطِّين صلّوا وكبّروا.. ويبكيك صفصاف الشام ووردها.. ويبكيك زهرُ الغوطتين ودُمَّرُ.