حين قرأتْ ما ذكرته إحدى صديقاتها عن الخذلان، كتبتْ ردّها على تعليق تلك الصديقة سريعاً في ذهنها.
بذات السرعة، حذفته وثبّتت آخرَ لا يختلف عن ردود المجاملات التي نُعيدها طوال الوقت..
تراجعتْ..
بدا لها أننا نلقي ببذور (ذواتنا) في تعليقات أو في ردود.. على جدران خُلقت للنسيان.
مع أنها تتعامل مع منشوراتها بطريقةٍ مختلفة تماماً..
بل وتتقصّد أن تحمّلها بصمة روحها مرّات كثيرات..
فما نفعُ كلّ ما نكتبه إن لم يمتلك وهج (الأنا) في أبهى تجلّياتها وأكثرها صدقاً.
“وهج”.. الكلمة الأكثر من مناسبة حين تستحضرُ ميزةُ (الذكريات، الميموريز) كلّ منشوراتنا السابقة.. تُعيد إلقاءَها في وجوهنا.. فتستجرّ الإحساس بديمومة تلك الأفكار التي سبق وأفرغناها.. كأننا نحيا تلك اللحظة من جديد.
لم يكن منشورها عن الخذلان.. إنما كان عن النظر إلى تجاربنا وعلاقاتنا بطريقة حيادية، ومن الطبيعي أن يكون الآخر حاضراً في جميعها.. شريكاً.. حبيباً.. أو صديقاً.
اللافت.. أن قراءة صديقتها كان لما وراء الحكاية.. لأشياء لا نذكرها مباشرةً.
كأننا نتقصّد الكتابة بطريقة “الفراغات” التي على القارئ ملؤها.. فاختارتْ تلك الصديقة العنوان الذي وجدتْه مناسباً، هي التي “لم تعد تستطيع استقبال (الخذلان)، على الرغم من إيمانها بالآخر”.
للحظاتٍ، تأمّلتْ ذاك التعليق كأنها هي التي خطّته.
ما أرادتْ كتابته رداً على تعليق صديقتها أن خطأنا، أحياناً، يكون من خلال إيماننا بالآخر كما نؤمن بأنفسنا ونبالغ في ذلك، بمعنى نجعله مساوياً لنا كأنه نحن تماماً.. أو ربما رأيناه أو حوّلناه لأجمل جزء فينا.
لم تكتبْ كل ذلك..
لأنها في الحقيقة لاتزال تؤمن بالآخر.. ذاك الآخر الذي يجعلها ترى من خلاله نفسها كأجمل ما تكون..
فتراجعتْ وحذفتْ.
تنبّهتْ أننا مع الوقت ومع تراكم التجارب ندّعي النضج، دون أن ندرك أننا نقوم بتشذيب وتقليم نباتات أرواحنا وذواتنا الأصلية.. وعن طريق التدرج تختفي أجمل صفاتنا وأكثرها تلقائية وعفوية..
كأننا نبني جدراناً عازلة ليس بيننا وبين الآخر/الآخرين.. إنما بيننا وبين أنفسنا.
هل تجعلنا مرارة الخذلان نبتعد عن الآخر أم عن أنفسنا..؟
فكل الأشياء.. والتجارب.. وعلاقات الحبّ التي لا تجعلنا ما نحن عليه، هي شكل من أشكال الخذلان أو الخيبة.. كلّها تجعلنا نتقن بناء جدران تعزلنا عن كينونتنا الأحبّ والأجمل..
ولطالما أحبّتْ توصيف نفسها بالبرّية.. فكم جعلتها كل تلك التجارب تحتفظ بشيء من برّيتها.. فطرتها الأولى.. ودهشتها الأجمل في تلقي الآخر كما تحبّ.