تستعر الحروب في كل مكان لترسم الأحداث المأساوية، والمدمرة التي تفضي إلى خسائر بشرية، واقتصادية، وبيئية عظمى، فهي إضافة لما تزهقه من أرواح، وما تتسبب به من خسائر اقتصادية فادحة، فإن تداعياتها البيئية ربما تفوق غيرها من الخسائر في تأثيرها الملوث الممتد على المناخ.
والدول الكبرى التي تسببت، ولا تزال، في إفساد مناخ الأرض بسبب صناعاتها الثقيلة، وأساليب استغلالها الجائر للغطاء النباتي، وتدمير الحياة البرية، والبحرية، وسواها إلى آخر القائمة التي تطول، ولا تقصر، تتداعى بين وقت وآخر لمؤتمرات، وندوات عالمية عاجلة، وآجلة لحل أزمات المناخ، وابتكار حلول مجدية للحد من كثافة الانبعاثات الغازية الضارة بالبيئة.
لتأتي فيما بعد النزاعات المسلحة التي تعتمد الأسلحة المدمرة وما تطلقه من مواد كيميائية تسمم الأجواء من هواء، وتربة، ومياه، وتترك آثارها المؤذية طويلة الأمد، ولتفاقم أيضاً من ظاهرة الاحتباس الحراري، وتغيّر المناخ بما يؤثر على البيئة العالمية، والصحة العامة للبشر.
وها هي الحرب على غزة تطرح أمام العالم أزمة مناخية ربما غير مسبوقة تتسبب بها الأيدي الآثمة التي لا تعبأ بشيء سوى مصالحها وحتى لو دمرت العالم بأسره، وهي تتجاوز على القوانين والمعاهدات البيئية المتعلقة بحماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة، ولا مراقبة أو مساءلة.. وأحدث الدراسات تشير إلى أن الانبعاثات التي ترفع من حدة ظاهرة الاحتباس الحراري الناجمة عن تلك الحرب المجنونة غير العابئة بحقوق البشر والإنسانية قد فاقت ما تنتجه أكثر من عشرين دولة صناعية وفي فترة قياسية خلال ثلاثة أشهر نتيجة القصف متنوع المصادر والاتجاهات من برٍ، وبحرٍ، وجوٍ.
فهل ستدفعنا المفارقة المضحكة ليطالب العالم بتطوير تكنولوجيا عسكرية صديقة للبيئة مادام العقلاء لم يعودوا هم الذين يملكون زمام الحروب؟ بل ماذا سيفعل العالم بنفسه مادامت الانبعاثات السامة لا تزال منطلقة نحو السماء لتزيد من حدة التلوث البيئي، وبسبب تلوث عقول العدو التي تتسبب بها؟ وهل سيستطيع التأهيل البيئي أن يعيد إصلاح الأضرار التي اقترفها العدوان في المناطق المدمرة تجنباً للكارثة الأسوأ؟ أم إن البشر سينتظرون أصيافاً قادمة أكثر سخونة من الصيف المنصرم الذي سجل أعلى درجة حرارة عرفتها الأرض بعد أن ساهم العدو المجنون في إفساد خطة السيطرة على تلوث المناخ؟!
أجل.. إن الجهات الدولية المسؤولة عن سلامة العالم، والمنظمات ذات الصلة تقوم بالدراسات، وتعد التقارير، وترسي المؤشرات لتقييم تأثير النزاعات المسلحة على البيئة من تدهور للموارد الطبيعية، وتدميرٍ للبنية التحتية بما يحمله من آثار سلبية بل وخطيرة، وهي تهدف إلى توثيق تلك التأثيرات بعد تحليلها لفهم أبعاد أضرارها ومن ثم اتخاذ الاجراءات المناسبة للتعامل معها.. فكما أن عدوان الحرب يأتي من البر، والبحر، والجو فإن الحلول لابد أن تشمل تلوث المياه، والتربة، والهواء مجتمعة، وكذلك الصحة العامة للمواطنين الذين سقطت قذائف الحروب فوق رؤوسهم، وعلى بناء بيوتهم.
وها نحن ننتظر أن تُشرع الأقلام، وتُفتح الصفحات لتسجل، وتقيّم حالة التآكل البيئي، ولتوثق واقع الأمر، وتحلل العوامل المساهمة في تفاقم الأضرار، وتبحث بعد ذلك عن العلاج إن عاجلاً أم آجلاً، فالبلاء لا يعدم أن يكون عالمياً.. والأهم أن الطاقة النظيفة التي يتوجه العالم نحو استخدامها أن تمسك بزمامها عقول نظيفة تعي بتأثيرات الحروب على التلوث المناخي، وتملك القدرة على حماية البيئة، وإدارة المخلفات الخطرة التي تهددها لأنها بالتأكيد لن تعود نافعة إذا ما أمسكت بها عقول ملوثة لا تبقي، ولا تذر.
* * *