بين النّقد والانتقاد حكايات

الملحق الثقافي- رجاء شعبان:
أذكر أنّي من وراء النقد كنتُ أخاف أن أظهر للناس أو أتكلّم معهم أو إليهم فيما بعد لو كان عن طريق موضوع أو شيء ما سيكون أمام جمهور واسع أو عريض… إذاً من وجهة نظري الإنسان العاقل يمتلك جينات الحياء أو الخجل ويخاف ردّات فعل الآخرين وخاصة ممّن لايعرفهم فيختار شخصاً يرتاح إليه ويكون مقرّباً منه ويعلم أنه يحبّه ويشجّعه ولا يوبّخه أو ينتقده بمعنى المعارضة والتجريح.
لأنّ النقد ببساطة عندنا تحوّل للجانب السلبي وارتبط به بمخيّلتنا وتخلّى عن جانبه التربوي أو البنائي إن صحّ التعبير، فإسلوبنا همجي بعض الشيء في تقبّل الآخر نحن المجتمعات العربية التي أغلبية بنائها قائم على المورثات والصوت العالي والقسوة والتبرئ والمحاججة غير المنطقية نظراً لتبعات كثيرة مصدرها الخوف واستصعاب الخروج من المألوف والإتيان بجديد، فالجديد عندنا يعني افتعال الموبقات للأسف.
سأتكلم عن تجربتي ولن أسهب بحلّ القضايا الاجتماعية العالقة وتشريح الحالة النفسية البنيوية المجتمعية القديمة والمستحدثة، فأنا أذكر أنّي كنت نوعاً ما لدّي بذور مواهب بالفنون أو الأدب التعبير في وقتها أو الرسم والرأي الصريح المنطقي حول أمور كثيرة، ولكن بنظرة للمحيط وجدتُ أنّ تحقيق ذلك جهراً قد يغدو مزعجاً للآخرين ولي، فهناك نسق معتاد بما هو صح وضروري وبما هو غير ضروري، وفي مجتمعاتنا الخائفة، الغالبية العظمى حتى من المعلّمين في المدارس يعتبرون أن الفنون والرياضة والآداب حالة غير أساسية ومضيعة للوقت بل جنون، فالعلم وحده سيطعم الخبز والخبز وحده سيشبع البطن!.
بالنسبة لي لم أستكن أبداً وبقيتُ حسب المعترَف «في جنوني» لكنّي كنت أحتفظ بكل ما أفعله لوحدي على دفتر للكتابة والرسم والهوايات الأخرى من رياضة وغناء مثلاً أمارسهما في أعمالي التي تعترف فيها الناس وتفتخر بها كأكثر أحد مثلاً يجيد العمل بإتقان وصبر كقطف الثمار والغناء أثناء ذلك وتحدّي قطاف ثمار أشجار يصعب قطافها، سيجد الموهوب أو صاحب الحبّ لشيء والشغف به مخرجاً دائماً له إن كان صادقاً إلى حين تمرّ السنوات ويثبت على مايريد ويركّز ويجتهد ويؤكّد جدارته وجمالية مايقوم به ومايسبب سعادة وفخر لغيره، حينها ستنقلب المعادلة برمّتها، فمن كان ضدّه سيفخر به ويغدو محط أنظار واهتمام وعناية ومتابعة له وسنده إن خانته إمكاناته ووقع في أتّون اليأس أو التعب والتراجع، سيتذكر تلك اللحظات العنيدة ويستمدّ منها وينهض من جديد لأجمل وأغلى.
أول مواجهة لي في النقد لم تحدث إطلاقاً، بإمكاني أن أسميها المنطقة صفر أو الجيوش المنسحبة أمام الخوف من طبول الحرب، كان ذلك في صيف صف الحادي عشر بالمرحلة الثانوية، إذ كانت المدرسة قد وضعت اسمي مشكورة في معسكر يختص بذلك كمكافأة وتشجيع تحت اسم معسكر ترفيهي، وأنا حينها جنّ جنوني» من الفرح لكلمة ترفيهي في وسط الواقع التعذيبي التعنيفي الدائم وخاصة لمن يكتب الشعر، وفرحتُ بذلك عدا عن اسمه الجميل الذي سأعانق الرفاهية فيه لأول مرّة وأستلذّ بلقائها الشريف، كما أنّ رفاهيتي ستكون فيما يدينوني به، سأغدو محط حسد وكتم أفواه لمن سيتلفّظ عن المواهب بأنها ثانوية ولاشيء أو حالات مستطردة بالخروج عن العقل في الحياة.
المهم ذهبت إلى المعسكر وأخذت حقيبتي من الملابس والدفاتر والأوراق، وكل يوم أستجمع قواي لأُسمِع اللجنة شيء من كتاباتي، فلم أقدر… لم أكن أقدر حتى على المشاركة بالتحدّث لزميلات أو الاحتفال مع الجمع ليلاً في حفلات السمر على البحر باعتبار المعسكر كان على شطّ البحر بطرَطوس، وقضيت أيامي بتأمّل البحر والقمر كأني لأول مرة أراهما، كنت أستيقظ باكراً قبل الجميع وأذهب إلى البحر أسمعه حالي فقط والوحيد الذي كنت أثق به أنه سيفهمني..
المهم انقضى المعكسر الذي هو خمسة عشر يوماً أو أكثر لم أعد أذكر بالتحديد، بالهروب من حالي والجميع وكتاباتي حتى، وأسماع الآخرين إلى البحر… مع سماع كامل لكل مايقولون، كان الخوف يقتلني مع أنّ اللجنة لطيفة جداً وكتابات الآخرين ليست من عالم آخر لكن أنا كنت أشعرها من عالم آخر لن يستعذبها الناس.
طبعاً هذه القصة أو الحادثة ليس الغرض من ذكرها كقصة ولكن هي باختصارها تبيّن كلّ مانمرّ به من حالة ذاتية فردية أم اجتماعية مجتمعية أكاديمية علمية بين المبدع أو صاحب الموهبة وشخص آخر سينقده أو ينتقده!.
بين النقد والمبدع….
فمن كان الغلط بالقصة؟ في الحقيقة لايوجد غلط أو خطأ بالقصة وأحداثها ومجرياتها وأبطالها، فكلهم بريئون بما فيهم أنا، المدرسة التي خوّلتني لهذا المعسكر الجميل أياً كانت الأسباب حتى لو كان مجرّد تعبئة أسماء لديها، والتلاميذ الموهبون الجميلون ولكني أنا الغريبة عنهم، كنتُ أعتقد سأجد بشرا من نوع آخر لكنهم كانوا طبيعيين يرقصون ويغنون ويثرثرون بأشياء تافهة لا أقدر عليها، أم الأساتذة واللجان المشرفة التي تنصت جيداً لكل مانقول مما عندنا وتعطي الملاحظات وتقيّم بكل ودّ وموضوعية، لكني كذلك كنت أعتقد أني سأرى ربما لجانا تفهم بالوحي والإشارة وليس فقط بالاستماع…لا أدري… وأنا المنطوية المتأملة لما يجري حولي، لا أحد جرحني بل حاول بعضهم التقرب منّي وكنت بعيدة، بعيدة عن كلّ وربما ذاتي مع الآخرين.
فلو عدت إلى القصة أو الحدث هل أكرره؟ نعم! لأنه درس بحد ذاته ولو لم أشارك وقتها فأنا إلى الآن أستفيد وأتحفّز بألا أخاف، ووقتها للصدق ربما لم يكن خوفاً معتاداً، كان الخوف عندي من عدم تقبّل فلسفة لدي مختلفة نوعاً ما بحزنها العميق، كانوا سيقولون لي خففي فلسفة وحزن مثلاً.. وادخلي بالواقع أكثر…. وهما زادي وزوادتي.
سأحترم الآراء كلها لكن لست قادرة على تغيير حبري وبصمة روحي، لذلك سامحتهم قبل أن أُسمعهم شيئا وتفهّمتهم وبقيت أحب كلّ شيء بما فيهم الناقد والنقد لكني كنت غير مستعدة لتلقي الضربات ومالا أقدر على تحمله دون سبب قبل أن يشتد عود عصبي ويتمرّن وعيي.
إذاً يا سادة ارتبط بمخيلتي النقد بالانتقاد، لأنه هكذا نحن لا نميز بين النقد الذي يرى الإيجابيات قبل السلبيات ويدلّك على كيفية إصلاح وتخطّي السلبيات في العمل القادم دون تجريح أو تنقيص أو استخفاف، وصرنا نعاني حالة انتقاد شنيعة فكل شيء نفعله نرى الخطأ فيه قبل الصحّة لدرجة رؤية الابداع حالة مَرَضية تحتاج إلى علاج بالتخلّي عنها والاستسلام لواقع بشع مريض يرى العلاج بالاستسلام للمرض واعتباره هديّة ربانية.
النقد حالة جميلة تقضي على الفوضى وتشجع المبدع وتزيده إبداع وتُخرِج منه لفن النقد ابداعاً آخر… أما الانتقاد حالة مؤذية هادمة للفكر ناشرة للفوضى، ونحن نريد مجمعاً ومجتمعاً نقدياً عامراً بالمحبة والتقبل للآخر أياً كان وصولاً لمعطيات جديدة وجميلة تحتفظ بالجميل وتأتي بالأجمل والسلام على حبينا النقد البنّاء الذي يعمّر ولا يهدم، يتفاعل، يأخذ ويعطي، يكون سليماً مسالماً معافى.
                           

العدد 1178 – 13 -2 -2024

آخر الأخبار
مسؤولان أوروبيان: سوريا تسير نحو مستقبل مشرق وتستحق الدعم الرئيس الشرع يكسر "الصور النمطية" ويعيد صياغة دور المرأة هولندا.. جدل سياسي حول عودة اللاجئين السوريين في ذكرى الرحيل .. "عبد الباسط الساروت" صوت الثورة وروحها الخالدة قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل خرقها اتفاق فصل القوات 1974 "رحمة بلا حدود " توزع لحوم الأضاحي على جرحى الثورة بدرعا خريطة طريق تركية  لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع سوريا قاصِرون خلف دخان الأراكيل.. كيف دمّر نظام الأسد جيلاً كاملاً ..؟ أطفال بلا أثر.. وول ستريت جورنال تكشف خيوط خطف الآلاف في سوريا الأضحية... شعيرة تعبّدية ورسالة تكافل اجتماعي العيد في سوريا... طقوس ثابتة في وجه التحديات زيادة حوادث السير يُحرك الجهات الأمنية.. دعوات للتشدد وتوعية مجتمعية شاملة مبادرة ترفيهية لرسم البسمة على وجوه نحو 2000 طفل يتيم ذكريات العيد الجميلة في ريف صافيتا تعرض عمال اتصالات طرطوس لحادث انزلاق التربة أثناء عملهم مكافحة زهرة النيل في حماة سوريا والسعودية نحو شراكة اقتصادية أوسع  بمرحلة إعادة الإعمار ماذا يعني" فتح حساب مراسلة "في قطر؟ أراجيح الطفولة.. بين شهقة أم وفقدان أب الشرع في لقاء مع طلاب الجامعات والثانوية: الشباب عماد الإعمار