الكاتب بين سندان الإبداع ومطرقة النشر العامة والخاصة.. د. ياسين: الموازنة السنوية للهيئة محددة ولا يمكننا تجاوزها !..د. بكفلوني: الكتاب ليس ميداناً يمارسُ فيه الكاتبُ الغرُّ هوايتهُ
الثورة- تحقيق – رنا بدري سلوم:
لم يرق سؤالي لبعض أصحاب دور النشر عن استسهال الدور في تقييم المخطوطات كما يشاع عند البعض، وخاصة بعد رفض الجهات العامّة كالهيّئة السوريّة العامة للكتاب واتحاد الكتاب العرب طباعة المخطوط، وإن دل على شيء فهو الوصول إلى الربحيّة واستقطاب الكتّاب وغزارة الإنتاج، وهو ما يعد مشروعاً تجارياً ناجحاً للطرفين، في وقت يوجّه بعض الكتّاب أصابع الاتهام إلى الجهات العامّة بأنها أصدرت كتباً لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به!. ليقف الكاتب بين سندان الإبداع ومطرقة النشر العامة والخاصة وبكلتا الحالين هدفه أن يبصر منتجه الأدبي النور إما إلكترونياً وإما ورقياً.
تجاربهم وآراؤهم بها
توجّهنا لعدة كتّاب أغفلوا الاسم وحتى الرأي عن النشر،”تصرّح إحدى الكاتبات” قدمت للجهات العامة كتاباً منذ عام وإلى الآن لم يتم الرد، فلجأت إلى الخاص، الموضوع شائك، والإجابة عنه يحتاج لصفحات.
وشعراء يشجّعون الطباعة في الدور الخاصة، بعد تجربتهم معها، سرعة في الوقت ومنعاً لحرق الأعصاب في الحصول على الموافقة العامّة للطباعة في الجهات العامّة التي تحكمها المزاجيّة عدا محسوبيّات تقف دائماً في الصدارة، ومع ذلك لديهم ثقة بأن القارئ “مستهلك المنتج الأدبي” يقيّمه بالقبول أو الرفض، وهنا تكمن قيمة الإبداع.
بينما تُحدثنا الشّاعرة ماجدة أبو شاهين عن تجربتها في الطباعة بالقطاعين العام والخاص فتقول: طبعت أول مجموعة شعريّة في دار نشر خاصة بناء على رغبتي ورغبة الدار التي اقترحت أن تكون تكاليف طباعة الكتاب مناصفة بيني وبينها، لأن الشاعر المسؤول في الدار ناقد له دوره في الحركة الأدبيّة، دقق المخطوط وراجعه واقتنع به وأجاز نشره. وطبعت المجموعة الشعريّة الثانية في اتحاد الكتّاب العرب في دمشق بعد قراءتها من اللجنة وإجازة نشرها، وهناك مجموعة شعريّة جديدة قيد الطباعة في اتحاد الكتاب العرب، ومجموعة نشرت إلكترونياً في وزارة الثقافة بالشارقة في الإمارات العربية المتحدة.
وبرأي أبو شاهين أنه لا إبداع ولا نشر موضوعياً إلا في مناخ من حريّة التعبير وموضوعية التقييم، وإن استسهال دور النشر الخاصة للنشر أمر نسبي لا يصح تعميمه.
فالكثير من دور النشر التي يديرها كتابٌ وشعراء مرموقون لا يقبلون المخطوط إلا إذا كان على مستوى عال من حيث اللغة والإبداع. وإن كنّا لا ننكر وجود دور نشر خاصة أخرى تعمل بأهداف ربحيّة على حساب جودة المنتج الأدبية. فيكون الأدب عندها ضحيّة المال، وهذا يؤدي بالتأكيد إلى تردّي الذوق الأدبي العام. أما عن رفض الجهات العامة كالهيئة السورية للكتاب واتحاد الكتاب، فهذا ليس بالضرورة دليلاً على ضعف المخطوط، فلكل هيئة معايير خاصة تختار وفقها ما تنشره، وإن خالف هذه المعايير أو السياسة العامة التي رسمتها لنفسها هذه الجهة فإنها سترفضه. وإن كان السواد الأعظم من المخطوطات يُرفض بسبب عدم ارتقائه إلى المستوى الفكري أو الأدبي بالحد الأدنى المطلوب في دور النشر العامة.
قد يستغرق النشر في الجهات الأدبيّة العامة وقتاً طويلاً، لذلك يلجأ بعض الكتاب والشعراء إلى الطباعة في دور النشر الخاصة. مؤكدة أبو شاهين أن صدور كتاب عن جهة عامة كالاتحاد أو الهيئة ليس دليلاً كافياً على إبداع مؤلفه، ورفضها لنشره ليس دليلاً قاطعاً على عدم جودته.
جاذبٌ للعقل والقلب
إجابةٌ موضوعيةٌ وشفافةٌ وقد تبرّد قلوب الغاضبين عليها:” ليس كلُّ ما يصدرُ عن الجهات العامّة كهيّئة الكتاب واتّحاد الكتّاب العرب بالجيّد، ففي إصدارات هاتين الجهتين الغثُّ والسّمينُ، وعلى الضّفّة المقابلة ليس كلُّ كتابٍ تصدره إحدى دور النّشر الخاصّة بالكتاب الرّائج، فهي تطرح كتباً تصلى جمرَ الكساد لرداءتها، وإن كانت هذه الدّار تجتهد في ذلك اجتهاداً كبيراً لكي لا تسقطَ في حمأة هذا المطبِّ” وفقاً لعضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتّاب العرب الدكتور الأديب جهاد بكفلوني، فبرأيه شتّان ما بين جهتينِ جهةٍ تضعُ نصبَ عينيها وضعَ الثّقافة بين يدي الجمهور في صورةِ كتابٍ يكون غذاءً للرّوح والعقلِ، وجهةٍ ترى في الكتاب سلعةً تجيلُ طرْفَها في الرّبح، وتستدعيهِ ليكون بين يديها المغنمَ الذي ترنو إليهِ، مؤكداً أن الكتابَ في الوقتِ نفْسِهِ ليس ميداناً يمارسُ فيه الكاتبُ الغِرُّ هوايتَهُ، ويخرجُ على القارئ بكلامٍ يعكسُ بؤسَ مخزونِ هذا الكاتبِ إبداعيّاً وفكريّاً.
قد تبدو المعادلةُ صعبةً معقّدةً، لكنّ حلَّها ليس بالأمر العسيرِ
المطلوب وكما يرى الدكتور بكفلوني تقديمُ كتابٍ يكون مغناطيساً يجذبُ قلبَ القارئ وعقلَهُ في آنٍ معاً، ويقول: “ما يهمّني كعاشقٍ للكتاب أن أجد للكتاب سوقاً، فوجود السّوق يعني أنّنا أخرجنا الكتابَ من منفاهُ، وخلصّناهُ من غربته، وساعدناهُ في الظّفَرِ بالمكانة التي يستحقّها في حياتنا، خاتماً حديثه: لنجتهدْ للوصول إلى تقديم كتابٍ جيّدٍ، ولْتتضافرْ جهود القطاعينِ العامّ والخاصّ لتحقيق هذا الهدف السّامي الذي نتّفق على سموّهِ اتّفاقاً لا يكدّر صفوَهُ خلافٌ”.
جودة المحتوى ومحدودية النشر
ورداً على الاتّهامات والشائعات التي تطول الجهات العامّة يوضّح مدير الهيئة العامّة السوريّة للكتاب الدكتور الأديب نايف ياسين بالتأكيد على أن الكتاب الصادر عن الهيّئة واجب القراءة بفضل جودة محتواه وامتلاكه للعناصر الفكريّة والفنيّة الرفيعة، وعن سبب التأخر في القبول للطباعة يبين الدّكتور ياسين أن آليّة قبول الأعمال المقدّمة للنشر تستغرق وقتاً، إذ إن المخطوط يخضع لتقييم قارئ أول، وقارئ ثان، وقد يتطلب رأي قارئ ثالث مرجح، ومن ثم يجري تدقيقه وإخراجه وإعداده للطباعة، ويمر بأكثر من بروفه، حيث ترسل الأعمال إلى المحكمين من ذوي الاختصاص، فإذا كانت الدراسة في مجال الفلسفة يحكمها أكاديميون مختصون في الفلسفة، وإذا كانت في علم الاجتماع يحكمها مختصون في هذا المجال، وينطبق الأمر على المجالات الأخرى من شعر ورواية ونقد أدبيّ وغير ذلك، لافتاً إلى أن هذه الآليّة المتّبعة في أفضل دور النشر العربيّة وحتى العالميّة.
مؤكداً الدكتور ياسين حرص الهيّئة على منهجيّة عمل محددة، يحكمها أمران، أولاً ثمة تراكم كبير من الأعمال التي قوبلت بالنشر في الهيئة قبل تكليفه إدارتها بوقت طويل، وتعمل الهيئة على نشرها تباعاً، والأمر الثاني هو أن الموازنة السنويّة للهيئة محدّدة لا تستطيع تجاوزها كما أن لمطبعتها طاقة معينة لا تستطيع تجاوزها أيضاً.
وعن المخطوطات المترجمة يوضح الدكتور الياسين تشكل الهيئة سنويّاً لجنة وطنيّة برئاسة السيّدة وزيرة الثقافة وعضويّة عدد من الأكاديميين المختصين والمترجمين تكلف وضع خطة وطنيّة للترجمة تتضمّن الأعمال المقترح ترجمتها من اللغات المختلفة تأخذ الخطّة بعين الاعتبار توفّر المترجمين المؤهلين في كل من اللغات المقترحة، وتعطى الأولويّة في النشر للكتب التي تقرّها اللجنة رغم إبقاء المجال مفتوحاً أمام المترجمين لاقتراح أعمال من خارج الخطة حسب إمكانيات الهيّئة.
أما فيما يتّصل بالتعامل مع المخطوطات المقدّمة، إلى الهيّئة يقول الدكتور الياسين: استحدثنا آليّة يرسل من خلالها المؤلّف أو المترجم أو المحقّق فكرة عن العمل ونبذة موجزة عنه على البريد الإلكترونيّ، وتنظر إدارة الهيّئة فيما إذا كان المقترح ينسجم مع سياسة النّشر في الهيئة، وإذا كان كذلك يطلب تقديم العمل بصيغة ورقيّة وإلكترونيّة ليصار إلى تحكيمه، خاتماً حديثه بالقول نسعى إلى توسيع النشر الإلكتروني لإيصال الكتاب إلى أوسع شريحة من القرّاء وتوفيره بسعر ضمن قدرة الجميع على شرائه.
لابد من تعديل..!
اكتسبت سمعة جيدة بين الكتّاب، لأنها تطبع بالأقساط المريحة كما هو الشائع، لكنها لم تسلم من الاتهامات آنفة الذكر، فوجهنا الأسئلة إلى مديرها الروائي محمد الطاهر موضحاً في بداية حديثه أن معنى توتول هو اسم الرقّة في القرن الثالث قبل الميلاد، تأسّست دار توتول للطباعة والنشر والتوزيع عام ٢٠١٩، ويتألف كادرها من الكتّاب أصحاب المهنة، مؤكداً أن الدار لا تطبع مخطوطاً سبق أن تم رفضه من أي جهة رسميّة معتمدة، وربما يلجأ الكاتب إلى تغيير أو تعديل في موضوع المخطوط أو جزء منه ليكون صالحاً للموافقة ومن ثم النشر، بشكل يتوافق مع سياسة الخصوصيّة للدار وفق المعايير المهنيّة والأخلاقيّة المتّبعة والمنسجمة مع الذوق والنظام العام، ولكل دار نشر أسلوبها في العمل، ونشترط أن يكون العمل موافقاً عليه وصالحاً للنشر من جميع النواحي اللغويّة والذوقيّة والمعايير المعتمدة في سوريّة، وفي الدار كادر من المدققين والمنضدين والمصممين لجميع أنواع المخطوطات المطلوبة، وأحياناً نقترح تعديل بعض النصوص والجمل وبعض العناوين، ويتم الاتفاق على ذلك مع الكاتب.
تجربة ناجحة قلّ مثيلها
لقد سبق لي أن قدّمت مخطوطاً إلى دار نشر عامّة، وبالنسبة لي “والكلام للمترجم الأديب حامد العبد”: فإن تجربتي مع دور النشر العامّة كانت إيجابيه للغاية، سواء أكانت الهيئة العامّة السوريّة للكتاب، أم اتحاد الكتاب العرب، إذ لم يُرفض لي أي مخطوط قدمته لها، كما أني نلت جائزة سامي الدروبي للترجمة عن إحدى المخطوطات التي قدمتها لها، وهو كتاب (الأساس الأخلاقي للديمقراطية).
مبيناً العبد أنه في الحقيقة ليست فقط الجهات العامّة هي التي أصدرت كتباً لا تساوي ثمن الحبر الذي طُبع بها، ولكن هناك أيضاً الكثير من دور النشر الخاصة قامت بفعل ذلك.. ولكن ربما تميل كفّة الميزان للعامة أكثر من الخاصة، وذلك بسبب ما يُطلب منها أحياناً. الموضوع هو أن أي دار نشر لا تكون موفقه دائماً في اختياراتها. ومن باب الإنصاف يشير العبد إلى العديد من العناوين الرائجة التي طبعتها دور النشر العامّة، والمجال يضيق لذكرها هنا، ولا ننسى أن هذه الدور العامة تضم بين كوادرها العديد من الشخصيات الأكاديمية المرموقة.
سوقٌ للكتابِ
أتاح عالمنا الرقمي الفرصة لكل مبدع النشر وتقديم ذاته الأدبيّة، ومع هذا يبقى للطباعة الورقيّة أهمية كبرى في تأريخ المنتج الأدبيّ وأرشفته على رفوف المكتبات العامّة، فيبقى الكتاب متاحاً لكل ناظر قد يمر مرور الكرام أمامها، وأن تقول طباعة ورقيّة أي مبالغ ماليّة طائلة تثقل كاهل الكاتب، عدا هموم التوزيع والنشر والتسويق الذي لن يعود بأي ربحية له فيما بعد، إلا إذا تبنّت الدار الخاصّة الكتاب، وبين كل تلك الخيارات المذكورة آنفاً، لابد من حلٍّ وسط تتّخذه الجهات العامّة مع الخاصة للطباعة، والأهم من الطباعة وبحسب كل من أدلى برأيه هنا، الحل هو إيجاد سوق للكتاب يخرجه من ظلماتِ الأقبية إلى النور.