ثمة من يخلط بين الفكر والهوية والقيم دونما تمييز بين تلك المفاهيم، ولعل الهوية ابتداء هي ما يميز جماعة أو شعباً عن غيره سواء من حيث اللغة والثقافة والعادات والتقاليد وربما الدين بوصفه نمط حياة، وليس طقساً فقط، ولعل منظومة القيم تحتل موقعاً مركزياً في مفهوم الهوية لذلك ترى الصراع اليوم بين المركز والاطراف هو صراع منظومات قيم حيث حل محل الصراعات الإيديولوجية الذي كان هو العنوان الأبرز فترة الحرب الباردة، فالملاحظ اليوم أن الصراعات الإيديولوجية قد تراجعت، وربما غابت ليحل محلها صراع الهويات ومنظومات القيم بمعنى أن ما جاء في أطروحة صموئيل هانتغتون صراع الثقافات هو الأبرز بدليل أن الليبرالية الجديدة التي يمثلها المشروع الغربي أصبحت الأكثر بروزاً في ساحات السجال الفكري، حيث يسعى الغرب إلى نمذجة شعوب العالم وفقها وتعميم نموذجه القيمي الثقافي وفقها مع محاولات لضرب وتمزيق الهويات الثقافية لتلك الشعوب عبر غزو ثقافي إحلالي غير مسبوق ومحاولات تسفيه للأديان السماوية ومنظوماتها الأخلاقية ولاسيما الأسرة ومنظومات الأخلاق مع إعلاء لمفاهيم المتعة والتسليع والأثرة والمال والتعامل مع الإنسان بوصفه كائناً بيولوجياً وليس معرفياً أخلاقياً.
إن الحديث عن القيم والهوية لم يعد حديث ترف فكري، وإنما حديث في الجيواستراتيجي، ويحتاج إلى بناء سياق عام لتلك الثنائية لولوج جوهر الموضوع وتفاصيله انطلاقاً من الكلي إلى الجزئي في المفهوم الفلسفي المدرسي انطلاقاً من مقولة من نحن وكيف نعرف أنفسنا هوياتياً وكيف يرانا الآخر وكيف نراه ونعرفه أيضاً ثم ماذا يريد، ومادا نريد بوصفنا أبناء أمة تشكلت تاريخياً واستمرت كذلك لأكثر من ألف سنة، ولم تتمزق إلا منذ مئة عام، وتحولت إلى أوطان استزرعت واستنبت بفعل خارجي ولكنها بقيت واستمرت أمة ثقافية ووجداتية عناصر وحدتها بوصفها أمة واحدة تتفوق بشكل كبير وتزيد على خصوصياتها أقطارها الوطنية إن هويتي هي ما يميزني عن غيري، والأخر هو الهو بالنسبة لي والعكس صحيح، ولعل أهم عناصر التميز تلك هي اللغة والدين بوصفه أسلوب حياة والجغرافية والتاريخ والثقافة والشعور بالانتماء.
إن الصراع اليوم في العالم لم يعد صراعاً إيديولوجياً بل هو صراع قيمي بمعنى أن القوى الكبرى والمهيمنة علمياً وتكنولوجياً ومعرفياً وإعلامياً تريد وتعمل على نسف منظومة قيم أمم وشعوب أخرى ومنها الأمة العربية وغيرها من عالم الشرق والجنوب وإحلال قيمها ومنظوماتها بين شعوبها كما تفعل الليبرالية الجديدة اليوم ولاسيما ضرب فكرة الأديان والأسرة والأخلاق العامة وتسليع كل شيء في حياة البشر ومع الآسف نلاحظ أن شعوبنا تعاني من ضعف النخب واستلابها حيث بدأت تتحدث بلغة الغرب وثقافته وتركب تلك الموجات معتقدة أنها بهذا تكون من تيار الحداثة وما بعدها، فتعمل كمعول هدم في شعوبها بدل الدفاع عن ثقافتها وهويتها وبالتالي كيانها ووجودها.
لقد أصبحت معركة الدفاع عن القيم هي معركة الدفاع عن الهويةً، فعندما تنهار منظومة الأخلاق ينهار المجتمع بكليته، ولعل قول شاعرنا العربي استشعار مبكر بذلك بقوله وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، وهذه حقيقة قائمة اليوم ولعل موجة الهجوم على منظومات الأخلاق السائدة تفسر أن العولمة المتوحشة تريد أن تكتسح كل ما عداها عبر فائض قوتها الإعلامية والقدرة على تصدير النموذج وجز منظومات القيم من أساساتها كجز العشب حتى لاتبقى له قائمة، ولعل هذا التحدي القيمي يفرض على شعوب العالم المستهدف التصدي الواعي لذلك لأن فيه دفاعاً عن هويتها ووجودها، وهذه مسؤولية الجميع وفي المقدمة منهم النخب الثقافية والفكرية وكل المنبريات على تعدد أدوارها وأشكالها ووظائفها.
السابق
التالي