الثورة- عمار النعمة:
التأويل من المصطلحات المختلف عليها، فتأويل الكلام هو الرجوع به إلى مراد المتكلم، وهناك من قال إن التفسير غير التأويل مثل قول (الثعلبي): التفسير بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازاً، والتأويل تفسير باطن اللفظ.
الباحث والناقد والفنان التشكيلي د. صلاح صالح والذي أصدر العديد من الكتب يذهب بنا في كتابه الجديد الذي صدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب بأن التأويل مستوى من مستويات الفهم، غير أنه ليس فهماً مألوفاً أو سطحياً، بل هو فهم أعمق من غير أن يكون منتشراً وشائعاً في الشمول، بوصف الاشتمال الأفقي تمديداً وتخفيفاً للكثيف، وتسييلاً يلبي متطلبات التغطية الشاملة، بينما يمضي التأويل باتجاه العمق العمودي الغائص إلى المزيد من العمق، وإلى ما هو قائم وراء العمق على سبيل التحقق، أو سبيل الإمكان ويضيف:
مهما بلغ الابتعاد بالتأويل عن المقاصد المباشرة للنص المستهدف بالتأويل، ومهما ضوعفت عملياته، فإنه يظل تقويضاً للسذاجة والسطحية، ويحمي البشر من إلزامهم للفهم المسطح المبتلى بالملاسة التي تمسح التعدد والتنوع والاختلاف، إن تعدد التآويل يعني الثراء والتنوع، بينما يمضي لجم النشاط التأويلي إلى الفقر وفرض المحدودية وإغلاق آفاق التفكير.
وعلى وجه العموم، يصعب إقامة النشاط التأويلي على نصوص سطحية فقيرة، ومثلما يقودنا النص الأدبي الثري والجميل إلى الذروات الواقعة خارج آفاق التوقع، يمضي بنا النشاط التأويلي إلى بلوغ المناطق المفاجئة الواقعة خارج المتوقع في النص الأدبي، وخارج المتوقع من الشغل عليه أيضاً.
يعالج الكتاب في فصوله (تزليف الإفراط في التأويل، والتأويل وتخصيب النصوص، وسردية الكرم والجوع، وطريق وتضييق مسارب (نجيب محفوظ في إضاءتين) ..إلخ … ويدور عنوان الكتاب حول فكرة أخرى يناقشها المؤلف بوصفها إشكالية ذات طابع فلسفي تتمثل في هشاشه الحقائق التي تبدو حقائق متينة عصية على الدحض، وخصوصًا في إطار العلوم التجريبية ومدى اتهام تلك الحقائق للمقاطع الزمنية المؤطرة لها.
التأويل حسب المؤلف في اللغة إرجاع الأمور في النصوص والأفعال إلى معانيها الأولية، ويعني اصطلاحاً في إطار التعامل مع النصوص قراءة أعمق للنص من خلال قراءة ما بين السطور وقراءة الكلمات المستبطنة في ظلال الكلمات الظاهرة ويعني أيضاً قراءة المناخ العام للنص ومختلف المضمرات المكنونة في المساحات البيضاء التي يرى رولان بارت أن المؤلف يتركها عمداً في نصه من أجل أن يملأها القارئ مما يجعله متورطاً في إنتاج المعنى أو إعاده إنتاج النص معرفياً عبر إسهامه بمنح النص ما يفتقر إليه حتى لو كان الممنوح منتمياً إلى خارج النص بشكل كلي.
وحول فكرة الطريق لنجيب محفوظ يندر أن توجد مادّة في الحياة يمكن شحنها بحمولة كبيرة من المعاني والأفكار كمادة الطريق، فالطريق هي الكلمة العربية الأنسب لترجمة مادة (التاو) التي ترتكز عليها الفلسفة التاوية في الصين والتاوية ليست مجرد فلسفة بل هي بمنزلة الدين الذي يضعها إلى جانب الكونفوشيوسية والبوذية والمهم في التاوية هو الطريق هو الكيفية التي يعيشها الإنسان خلال رحلته المتحددة بينما بين زماني الولادة والوفاة في معزل عن المآل الذي تفضي إليه الطريق؟ وفي معزل عن المنطلق والمبتدأ أيضًا .
والواضح لأي قارئ أن الطريق التي جعلها نجيب محفوظ عنواناً لروايته هي الطريق التي التزمت منحاها المجازي المؤطر لحياة الإنسان والحاضن لوجوده بين نقطتي الولادة والموت، غير أن إلصاقها بالأداة الدالة على الجنس وإطلاق المعنى من جانب ثم حصرها في مفردة الإلصاق من جانب آخر، طرح الإلصاق نفسه سبيلاً لدفق من الأسئلة التي يثيرها النص بدءاً من مفردة العنوان (الطريق) وانتهاء بما يمكن أن نسميه الخاتمة المفتوحة للنص من غير أن نغفل أو يغفل القارئ عن المفارقة القائمة في عباره خاتمة مفتوحة أو نهاية مفتوحة.
ويختتم كتابه بالقول: لا ننكر وجود آفات عدّة يبتلى بها النقد على الأصعدة العربية وغير العربية ومن أبرزها ما يسمى (بجبن النقد) الذي يهرب من مواجهة النصوص الجديدة التي يمكن أن يكون بعضها اختراقيًا يباشر عمليه التجاوز وخلخلة الركود واجتراح مأثرة الخلق الجديد من غير أن يغيب عن المشهد، إن ولادة نص جديد لا تعني أن يتهافت النقاد على احتضان المولود الجديد والانخراط في جوقة ما للتطبيل والتزمير له لمجرد أنه موجود جديد أو مولود أحيطت ولادته بعنايه جهة ما، فكثيرة هي الجهات التي صارت تروج هذا النص أو ذلك حتى قبل ولادته لأسباب مثيرة لطرح التساؤلات والشكوك.

السابق
الفنان السوريالي محمد غانم أورورا: اللوحة السوريالية لعبةُ تشكيلِ وخلق الحياة كما لا تستطيع أن تجدها
التالي