الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
برزت في سورية بثلاثينات القرن الماضي أسماء مهمَّة في الفن التشكيلي تُمثِّل ذاكرة وطن.. كان من بينها الرسام الكبيرسعيد تحسين الذي أثرى تاريخنا بلوحاته وبمقوِّمات الإبداع والحداثة والابتعاد عن الجمود والتكرار، في وقت انفتح فيه وطننا على تجارب عالمية وثقافات متعدِّدة، فهل سعيد تحسين كان معينها دون أن ينسى انتماءه وجذوره وتاريخه الثِّرالمعطاء؟ أنجز التشكيلي سعيد تحسين مئات الأعمال المنتشرة في أصقاع العالم، والمتميِّزة بالأكاديمية والواقعية والتعبيرية والانطباعية، فبلغ عددها ٢٥٠٠ لوحة، رسماً ودراسةً، وكانت جميعها تُمثِّل ذاكرة وطن لتاريخٍ صادق، ورؤية واضحة لآرائه وأفكاره، جعلته رائداً من روَّاد الفن التشكيلي الحديث في سورية. حيوية اللون وألق الخطوط: اهتمَّت ريشة تحسين بالناس البسطاء والكادحين، فصوَّرهم بعناية فائقة من زاوية أخلاقية سامية، مؤكِّداً على الروابط المتينة للمجتمع السوري المحب والمخلص لبعضه البعض، كما اهتمَّ بتعابير وانفعالات الأشخاص وملامح الوجوه وإيقاع الخطوط والألوان الموسيقية، طارحاً أعماله بجرأة وصراحة فهام في التفاصيل مع الولوج إلى أعماق الإنسان ورسم تعابير الوجوه وحركة الأجساد، سائراً إلى ما بعد الحداثة، وبالمقابل جسَّد المحاربين بنبلٍ وعظمة واقتداروقوَّة، وشحن ريشته بالمحبَّة والعمق تجاه شخصياته معطياً أعماله فخامةً كبيرةً.
كما اهتمَّ برسم الزخارف ونوعية القماش وتفاصيل الأردية بأنواعها كافةً ؛ مبتعداً عن التسجيلية ليضيف الكثير من مشاعره وأحاسيسه ووعيه ورؤيته وفلسفته، وتقديسه للقيم النبيلة من نواحي الخيروالشر والبؤس في المجتمع، مازجاً حلمه وخياله وألوانه وخطوطه. فاتحة بداياته الفنية بدأها بتثقيف نفسه من الجوانب كافةً، واهتمَّ بالموضوعات الشعبية والزخرفة الساذجة على قُطع القماش الحريرية ووجوه الأرائك المُزيَّنة بالورود أو بالطيور.. إلخ، وكان يزامل المصورين في سوق الحرير الدمشقي. تدفق المشاعر: لم تغب مدينة دمشق عن مخيلة الفنان سعيد؛ بل جسَّدها في مجموعة من اللوحات، وجادت ريشته بتصوير تفاصيل بيوتها العامرة بالأشجار في فناء المنزل حيث الليمون والبرتقال والنارنج والكبَّاد والورد الجوري، دون أن ينسى تصويرأعراسها في إيوان البيت وباحته، كذلك رسم مساجد دمشق وكل ركن فيها، إضافةً إلى إرثها الشعبي ونسائها المتَّسمات بالوقاروالقوة والعطاء، ماسكاً زمام أدواته بخبرة واسعة وحرفيَّة متقنة، فكان دائم الاطلاع والبحث وسبرالأمورعلى أهم مفاصل الفن التشكيلي والأحداث الوطنية والقومية والسياسية الدائرة في عصره. التشكيلي سعيد تحسين استلهم ثراء أفكاره من التاريخ العربي المُشرق وروعة الحضارة العربية والإسلامية الفنِّيَّة، مُنقِّلاً بصره في كلِّ ركن ودار ليقدِّم نظرة فنية جمالية تتسم بشفافية ورومانسية تأسر الأبصار عبر اهتمامه بتجسيد كتل معمارية هندسية رائعة بتصميمها أنجزها بدراسة وخبرة وتمكُّن ظهرت بقوة خطوط وألوان منسجمة ومتناغمة مفعمة بالحرارة، فبدت روحاً وثَّابةً مُتألِّقةً. الدمشقي البار بوطنه لم ينسَ في أعماله تصوير التراث الشعبي المتمثِّل بالدبكة والمضافات في الريف الساحر، حتى اُعتُبر بحق مدرسةً في الإبداع، إذ غاص في أغوارالنفس الإنسانية، وتأثَّر بآراء بعض الفنانين المصريين، مُنجزاً لوحات بعناوين مهمَّة: (شهداء ٦ أيار، معركة ميسلون، العدوان الثلاثي على مصر ، مباحثات الوحدة بين البلدين، المجاعة في سورية أثناء الحرب العالمية الأولى)، فكان صادقاً في كلِّ ما رسم، ما أعطى للفن التشكيلي مشاعر ذات ثقل وإيقاع عالٍ للخطوط والألوان المُتنفسِّة بأوكسجين الحياة والحركة. المناظر الخلوية والطبيعة الصامتة: كما جسدَّ الفنان سعيد تحسين المناظر الخلوية والطبيعة الصامتة المأخوذة من دمشق القديمة، ودخل إلى البيوت والمساجد ورسمها بمصداقية، مُركِّزاً على حشود الأشخاص سواء في دورالعبادة، أم في المعارك، أم في الأعراس، واهتمَّ في هذه الأعمال بأدقِّ التفاصيل من ظلٍّ ونور ودراسة الخطوط والألوان وتدرجاتها، وأبرز في الوقت ذاته عناصر الانسجام والحركة وقوة الفكرة لدرجة أننا نشعر أثناء رؤية أعماله بالفرح أو بالحزن أو بالأسى والرهبة، وكان يتناول اللوحة من زاوية مفعمة بالشعور بالحدث إلى أقصى حد وكأنَّه شريط سينمائي يمرُّ أمام عيوننا.. ومهما توقَّفنا عند اسم الفنان الكبير سعيد تحسين فلن نوفيه حقَّه في الكتابة كونه رساماً استحقَّ وسام الاستحقاق العربي السوري من الدرجة الأولى.
العدد 1183 – 26 -3 -2024