نعم .. من ثمارهم تعرفونهم، فلا داعي للسرد والتفصيل الطويل عن فظائع (سجن التوبة) الذي ابتكره من كانوا يدّعون أنهم ثائرون ضد (النظام) ليثبتوا للقاصي والداني بوصمة عار السجن هذه أنهم كانوا – ولا يزال بعضهم – يثورون ضد الإنسانية بكل أبعادها، وكان سجن التوبة هذا هو السجن الوحيد في العالم الذي تميّز بأن كل مساجينه أبرياء، ومع هذا تعرّضوا لأبشع صنوف العذاب والقهر.
كان الثائرون ضد الإنسانية يزعمون – على قنوات التحريض الفضائية وصفحات التواصل الاجتماعي – أن مساجين التوبة ما هم إلاّ ضيوف مُعزّزون مُكرّمون .. وقبل انكشاف الحقائق رأيناهم كيف عزّزوهم ذلك التعزيز الذي لا نظير له بأن زجّوهم في أقفاص حديقة الحيوانات الشهيرة التي كانت في دوما، ووزّعوهم في أماكن مختلفة كدروعٍ بشرية، لنتيقّن بعد ذلك مما كنّا به على يقين أنّ الإرهاب لا يمكنه أن يكون نبيلاً، ولا يطيق أن يبادر إلى أي فضيلة، لأنه يقوم أساساً على نبذ الفضيلة والنبل، ولا بد للإرهابي أن يتخلى عن عقله وقلبه وعن سجاياهُ الإنسانية، وإلاّ غدا إرهابياً فاشلاً، غير أن الإرهابيين – الذين ابتلت سورية بهم – أثبتوا بالدليل القاطع أنهم إرهابيون محترفون، ويمكننا أن نقرأ نجاحهم بإرهابهم وفلاحهم فيه، من خلال فظائعهم التي ارتكبوها من قتلٍ وذبحٍ وحرقٍ وتدمير بدمٍ بارد وقلوبٍ من صخر.
قُتِلَ من قُتل من (ضيوف) سجن التوبة وغيره من السجون المشابهة، وخرج كل طويل عمر، ليرووا لنا حقيقة تلك الاستضافة الزائفة، وكيف تعرّضوا للبرد وللحر الشديدين وللقهر والإهانات والضرب والتنكيل، وكيف ذاقوا مرارة الجوع حتى إن بعضهم تناول بنهمٍ شديد أوراق الشجر، وكانت هذه من أفضل الوجبات التي يمكن الفوز بها، ولاسيما ورق التوت الذي كان بمنزلة (وجبة خمس نجوم) بالنسبة لأوراق بقية الشجر، وروى لنا بعضهم أنهم أكلوا أخشاب عرانيس الذرة كي يسدّوا رمقهم ويُهدّؤوا قليلاً من آلام الجوع الذي لم يتوقف عن نهش أحشائهم على مدى سنوات الاستضافة.
هؤلاء الأبرياء (رجالٌ ونساء وأطفال) خرجوا من (مضافة التوبة) وأخواتها كما كان يجب أن يخرجوا .. معلولي الصحة .. هزيلي الأجساد نتيجة نقص التغذية وقلة العناية أو انعدامها، وشيئاً فشيئاً راحت تظهر معهم أعراضٌ وأمراض .. آلام مفاصل .. والتهاب أعصاب، وأوجاع ظهرٍ وأحشاء، وخلل في العظام والدم وفي أجسادهم بشكلٍ عام.
بعضهم يتجه نحو الحد الأدنى من العلاج، والبعض الآخر قرر الصبر على الأوجاع وتذوّق صنوف الآلام لأنهم غير قادرين على تأمين تكاليف العلاج والاستشفاء ولاسيما بعد أن قرر أغلب الأطباء مخاصمة ابن سينا وأبقراط، والضرب بوصاياهما عرض الحائط.
هؤلاء الأسرى الأبرياء الذين ذاقوا تلك المرارات كلها، ولا يزالون يعانون من آثار الاستضافة الوحشيّة، كان على الجهات الحكومية المختصة (وزارة الشؤون الاجتماعية – مثلاً – أو وزارة الصحة) أن تبادر من تلقاء نفسها إلى رعايتهم وحمايتهم صحياً، وقد روى لي بعضهم مؤخراً معاناتهم الشديدة من الأمراض ومن عدم القدرة على الاستشفاء، وسألوني :
ما الذي يمنع – ولاسيما أن عددهم قليل .. بالمئات فقط ولن يُشكّلوا تلك الكلفة الباهظة – من تزويدهم ببطاقة صحية تخوّلهم بالدخول مجاناً إلى كل المستشفيات الحكومية دون أي تدقيق ولا تملّص ولا امتعاض، ويكون من حقهم الاستشفاء والمعالجة على أكمل وجه، تقديراً لصبرهم وعذاباتهم الشديدة ووطنيتهم العالية أيضاً، فمن بنود التوبة التي اعتمدها الإرهابيون كانت التوبة عن محبة الوطن والتمسك به وبقائده.. فما تابوا ..؟ ولكنني لم أمتلك جواباً.