من أغرب الأنهار التي شاهدتها في حياتي ذلك النهر المملوء بالمخلفات في مدينة كازانلوك البلغارية، التي زرتها ضمن وفد للصحفيين ذات يوم مضى ، ولكن تلك المخلفات ليست قاذورات كما يتوهم السامعون ، إنها مخلفات ورود تلك المدينة التي تغطي مساحاتها شجيرات الورد الجوري الحمراء ، تلك الوردة الدمشقية التي ارتحلت في أصقاع العالم فوصلت أراضي كازانلوك كما وصلت غيرها من أراضي القارة العجوز ، وخاصة أرض الغال الفرنسية حيث العطور الغريبة والمتعددة التي تغزو العالم كله حاملة معها بعضاً من قطرات تلك الوردة الدمشقية الجميلة.
قبل وصولنا تلك المدينة الصغيرة استقبلتنا روائح العطور ترحيباً بقدومنا وكأنها تقول لنا : تخلصوا من جميع متاعبكم وتعالوا إلى أراض نظيفة وتطهروا من جميع الأدران ، حتى أن هذا النهر الذي نرمي به مخلفاتنا ، إنما ينبعث عطراً ويتضوع عبقاً يشفي من جميع الأمراض.
وخلال تجوالنا كنا نرى البضائع كلها مصنوعة من الورد الجوري، فهذه العطورذاتها مملوءة في أوان من خشب الورد ومصفوفة على رفوف منسقة مصنوعة من خشب الورد أيضاً فضلاً عن عشرات الأصناف من المراهم والدهانات والكريمات والشموع ومعاجين الحلاقة وتنظيف الأسنان وغيرها ، الأمر الذي يجعل المدينة كلها تتنفس عطراً واحداً وتتناول أصنافاً مختلفة من الطعام جوهرها وصبغتها من الورد الجوري ، وتلقي مخلفاتها في نهاية المطاف في النهر الذي ينبعث طيباً ومسكاً ينساب بين حقول الورود الممتدة إلى أقصى الأفق .
عندما غادرنا تلك المدينة حملنا أصنافاً كثيرة من منتوجاتها الطيبة وعدنا بها إلى موطن تلك الوردة تحملنا الآمال بإعادة النظر بزراعة وتصنيع تلك الهبة الإلهية التي تناهبها العالم البعيد وتناسيناها في موطنها الأصلي.