الملحق الثقافي- رجاء شعبان:
شهر الكتاب تحت عنوان: أي كتاب نحتاجه الآن في سورية – واقع الكتاب حاليًا – هل فقد مكانته..كيف نعيد ألقه ؟ « لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط» الحديد : 25 الكتاب سطور الأولين ومخزون العصور وتاريخ الحضارة… تسطير الحرف وخزانة العلم من الأدب والفن والموسيقا وكل فنون وإنجازات الطبيعة والإنسان… الكتاب ليس سطوراً بل ما فيه من المسطور… وليس ورقات مطويّات…. بل أسرار تنفح وتبوح بكل سرّ وروح… والكتاب ذكر وذاكرة للإنسان أن يعرف حاله ويتعرّف على الآخرين… الكتاب هو عوالم مجتمعة في صفحات… وأعتقد أنّ الكتاب جزء لا يتجزأ من رحلة الإنسان، بدأ معه بحرف إقرأ.. « جاء في سورة العلق : « إقرأ باسم ربّك الأعلى، الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى، إقرأ وربّك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الانسان مالم يعلم» وتهجّى بخطواته ليعبر مراحل نموّ وتطوّر وبناء… شريان لنقل المعارف والعلوم… موصول بالأزمان… لا ينقطع… وإن انقطع انقطع معه نَفَس الإنسان… جاء في الخبر القرآني: « ويا يحيى خذ الكتاب بقوة» مريم :12 « إنّ هذا لفي الصحف الأولى صحف ابراهيم وموسى» الأعلى: 14- 19 فالكتاب أمر مقدّس والقراءة أمر مفروض، بتحوّله إلى الذكر يذكّر الإنسان بحقيقته ويصله بربّه خالقه ومنشئه… وحتى لو كان الإنسان غير ذي إيمان… فإنه لا يسعه إلا أن يؤمن بالكتاب… الكتاب يعني خبز الإنسان المعنوي… فالمسيح عليه السلام قال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. والكتاب إذاً حاجة وضرورة ورفاهية وترفاً وأمراً وذكرًا…. فأين معه كثيراً لابتعاده عنه؟ وما هو البديل؟ الكتاب تنظيم… تنظيم للفكر والأفكار والتجارب ضمن تسلسل وتاريخ ومنهاج… أين نحن منه الآن… أين القضايا التي كان يعالجها؟ هل انتهى دوره بعدما تكلّم أسلافنا عن كل شيء…؟ يقول الشاعر عنترة: هل غادر الشعراء من متردّم؟ أي هل تركوا شيئاً لم يذكروه؟ وهل ترك العلم من ثغرة أو متهدٍم؟ الكتاب في خطر…. ضاعت هوّيته وتبعثرت هنا وهناك… وغدت مجرّد تجميعات لعلوم منقولة من هذا وذاك ومغلوطة كثيراً… دخل سوق المال وصار الكتاب تحت العرض والطلب… سوق تجاري ممكن أن يربح بعدما كان ذا فائدة تقدّم بالمجّان… ليتفتح مخّ الإنسان… الآن انفتح عقل الإنسان بعد أن انتفخ وانفجر… لم يعد هناك تسطير جميل إلا وصف حالات وليس دراسات ذات مغزى… وإن أحببنا أن نلجأ لمعلومة ندخل لمحرّك بحث عظيم وهائل وكبير وسريع جدّاً وكاشف يضعنا أمام كل شيء وبسرعة فائقة وخبرات وألوان ومواقع ورفاهية بيانات… فهل هذا هو الكتاب؟ نحن لم نعد نميّز… صار الموضوع صعب التحديد… فقد يقول قائل هذه أيضاً كتب إلكترونية ومكتبات تصلها بلمسة أصبع وتفتح أبوابها بحركة صغيرة من أنامل يدك بكل سهولة ويسر لتدخل عوالم الأكوان وليس فقط تلتقط موقعاً أو تزور عنواناً… أين الكتاب…. هل التطوّر الشبكي الذي وصلنا إليه يخدمه أو ينثره؟ يلغي هويّته وخصوصيّته أم يضيف له إضافات شاسعة وواسعة؟ ربّما نعم وربّما لا..! تكثر الكتب المجترّة من أزمان… والكتب الحقيقية التي تأتي بجديد وصدق وكشف يخفونها! معظم الكتب الحديثة غدت تكراراً لما قبلها… وبسعر باهظ الثمن، يجعل المرء يزهد ويفضّل عليه بعض مقاطع الفيديو التي تعرض ما يحلو لها من معلومات وأفكار … فأنت تستمتع وأنت تشاهد… فلم تذهب تبحث وتشتري كما من قبل… كلّه غدا متوفّراً الكترونياً تحت الطلب… لكن غدا الإنسان سريع الملل… حتى الأغنية لم يعد يتحمّل زمن طويل لسماعها، والفكرة لا تتحمّل أكثر من «لطشة» نظر للتعرّف إليها… وإلا غدت في مهبّ التجاهل والتيكتوك مثال على ذلك.. نحن لا نقرأ الآن، القراءة عمل جهيد… على متعته يحتاج لحلم وصبر وحب وشغف… ونحن بعصر تعدّد الأذواق وانعدام الذوق… تعدّد العلوم وانتفاء العلم المفيد… تعدّد المتعدد وانحسار المفرد المتفرد… وفي سورية كغيرها…لا تنفصل عن سائراتها من الدول فالحضارة عالمية والمعطيات على مستوى الكوكب… لم تعد هناك خصوصية بالطعام والشراب والمواسم والملابس فكيف بالكتاب… تخطّينا زمن العولمة إلى القولبة والسجن في العموم… ومن المفروض إلى الافتراضي… ومن المحسوس الى المنظور دون نظر وحواس …. تغييب للعقل والفكر وتحجيب للحواس بكثرة عروض المحسوسات… الصورة لغت الكلمة وحرفت مسارها ولم تعد تخدمها…. زمن الفوضى… والتبعثر والانهزام والكسل… زمن اللاكتاب واللاقارئ واللاثقافة واللاعلم المفيد…. جعجعة من دون طحين بل من دون قمح…. مانحتاجه الآن في سورية أو غيرها لن نستطيع أن نفعله… لأن الطوفان غمر كل شيء… ربما يتمّ التأثير على مراحل التربية والتعليم… ربما يتمّ تفعيل دور الكتاب وهناك مبادرات عظيمة ولكن الموجة عارمة… الموجة العالمية التي تضخّ آلاف الفيديوهات مما لم يبق وقت للتصفّح حتى فكيف للاطلاع والقراءة… زمن السرعة التي تجعلك مثقّفاً ومشهوراً ونجماً وثرياً بأبسط الطرق وأرخص الأدوار وأسهلها.. ما نحتاجه في بلدنا العودة الى الزمن الجميل للتعليم وقبله التربية وقبل ذلك الأسرة… أن يصحو الجميع الكبار قبل الصغار والأهل قبل الأبناء… فهم جرّبوا ورأوا أين وصلوا ووصل للعالم، للجريمة والفراغ واللاشيء… السطحية والعفن الثقافي المزيّن بالقوالب وبعض الرسومات والحلوى المزركشة عليه… والسّمّ كلّه في المحتوى الفارغ… المكتبات فارهة لكنها فارغة من الزائرين… كلّنا هجرناها… المدارس أقفلت ضمائرها… المؤسسات الثقافية جرت وراء مشاريعها … مشاريع الدولة يُستخفّ بها… ويمنهج إسقاطها… ونحن نتبسم تحت ذريعة عدم وجود الورق وغلاء الحبر والمواد… توجد موارد ولكن لا عزيمة ولا إرادة ولا قرار…. نحن نرزح تحت ضغط أنفسنا ولا مجال الا ببعض النكات والأغاني التي تملأ الساحات ساحات الدُّنى… لم تعد الأغنية توظيفاً، غدت الوظيفة كلّها ولم تعد الوسائل قنوات إيصال بل الأهداف بذاتها… لم يعد شيء هو ذاته… بخصيوصيته وكينونته.
فكيف تقنع هذا الجيل الذي تربّى على التسهيل باتّباع الصعب… نحن في الزمن الصعب يا عزيزي الإنسان.. وبعيداً عن هذه المقدّمة الطويلة التي تشرح الحال، نعود إلى وضع الكتاب الحالي في سورية، وفي شهر الكتاب نقول: الكتاب يبقى الكتاب، بقيمته، ومكانته، وتأثيره، والاهتمام به، كما سورية تبقى سورية بأبجديتها وحضارتها وتاريخها العميق الضارب في القدم والمعمار… كذا الكتاب وإن مرّت أحوال قاسية وحالت بين المرء ونفسه وليس فقط بين المرء وكتابه، لكن يبقى جوهر الإنسان السوري طائر الفينيق الذي يخرج من النار والعدم مجدّداً متجدداً … كذا الكتاب نجده يبرق ويلمع وينتشر… وما زالت جهات راعية ومهتمة وما زال أشخاص لا يبيعون الحرف ولا الوطن ولا الكتاب بكل بارجات العالم وأمواله وسفنه الطائرة حتى… كان الكتاب ويبقى رحلتنا إلى كل جميل… وفسحتنا من كل ضيق ورحلتنا في الإبحار والإبداع…. ونحن للحرف أهله وسيفه. مازلنا دولة تحترم المؤسسات وتعبق بالفعاليات وتهتم بالمبادئ والقيم والأخلاق رغم كل ما حصل ويحصل.. سنبقى أهل الحرف أهله لآخر رمق ونفس في الحياة، وسنبقى الأبناء الأوفياء لأمنا سورية أم الأبجديات.
العدد 1190 –21-5-2024