الثورة – غصون سليمان:
لم أعهد نفسي عاجزة عن البوح كما حالي اليوم .. ولم أكن أعلم أن مزاجي المضطرب منذ الاستيقاظ صباح أمس الجمعة يخبىء لي فألا غير حسن، غصة وضيق في الحلق، صمت يلف داخلي.. شريط من الذكريات طاف في المخيلة على غير موعده .. ساعات مرت بتفكير مشتت كحال المناخ المتقلب بين الحار والحار جدا .
إلى أن جاءني الخبر الصادم مساء.
لأخبر بأن الموت الحق خطف من بيننا زميلة محبة عشنا وإياها في مهنة المتاعب شقوة الأيام بحلوها ومرها. أيام وليال استنزفت من وقتنا وجهدنا الكثير لكن متعة التعب كانت شهية بما يتم إنجازه ،
لينا ديوب كما جمعتنا مقاعد الدراسة الجامعية بقسم الصحافة في جامعة دمشق جمعتنا مهنة العمل في صحيفة الثورة ضمن أقسام مختلفة تدرجنا فيها من قسم الاستماع السياسي الى الأخبار المحلية والدولية، ومن ثم الاقتصاد والتحقيقات والثقافة ، إلى أن استقر المطاف أن نعمل سوية ضمن قسم واحد دائرة المجتمع، حيث ملعب الزميلة لينا ديوب الذي تحبه ويشغل بالها ، إذ كان جل اهتمامها في مواضيعها ومتابعاتها ومقالاتها الصحفية ينصب على القوانين وقضايا الشباب والمرأة بكل توصيفاتها الموظفة والعاملة وربة المنزل والأم المكافحة، وغالبا ما كانت تركز على أهمية التمكين الاقتصادي للمرأة وكيف لها أن تجيد حسن التدبير والإدارة انطلاقا من مؤسسة المنزل وليس انتهاء بتكوين مشروعها الصغير على مستوى جمعية ومشروع تنموي.
كم كانت تحفز الزميلات على عدم الاستسلام للضعف والإحباط وأنهن قادرات على صنع الأفضل مهما تعقدت الظروف وتغيرت برامجها ومتطلباتها..
لم تكن توفر جهدا وفرصة تسنح لها وخاصة في ظروف الحرب الإرهابية على بلدنا الا وكانت كالسيف القاطع في الدفاع عن سورية وأبنائها ونسائها وأطفالها وبطولات جيشها وخاصة على المنابر خارج الحدود ، إذ كانت بمثابة سفير وطني بامتياز يلاحق زيف كل من يحاول تضليل المفاهيم وحرف المصطلحات والشعارات عن معناها وقوامها الحقيقي.
تابعت قضايا الشباب بكل أمانة ومسؤولية من خلال صفحة متخصصة باسمهم في دائرة المجتمع ،تحاورهم وتقدم رؤاهم، معاناتهم ومشكلاتهم واهتماماتهم المتنوعة ، كانت جريئة بقول كلمة الحق مهما كان الثمن.
ولعل أكثر ماكان يميز الزميلة الصحفية المهنية لينا ديوب هو تواضعها وتصالحها مع ذاتها وتأقلمها مع جميع الظروف التي مررنا بها جميعا، إذ كان كل يوم لنا حديث عن وجع الناس وماذا علينا أن نعمل لإيصال الرسالة بأمانة لمن يعنيهم الأمر.
مازال وقع كلماتها حاضرا مع ارتجاف صوتها حين كانت تقطع وتسلك طريق القابون حرستا باتجاه الضاحية وسط ركام الموت برصاص القناصة المتربص من كل الزوايا وهي الشاهدة على موت الأبرياء على جانبي الطريق ، ليس خوفا بقدر ماكان تحديا لقتلة ومجرمين جاؤوا من مشارب مختلفة ليعيثوا فسادا في بلدنا .
كانت أياما عصيبة تخطتها الزميلة لينا وتخطيناها جميعا بتكاتفنا ومحبتنا وقدرتنا على الصمود والمواجهة بالصبر والإرادة والوعي.
وكما تجاوزت لينا مرارة الواقع استطاعت أن تتعايش مع الضيف الثقيل الذي باغت جسدها الغض، وقبع في خلايا دمها ، لكنها تجاوزت مفرزاته النفسية بروح النكتة والكلمة المرنة والوصف الذي يليق بالإرادة الصلبة الفريدة التي تمتعت بها .
في آخر لقاء لنا في الجريدة منذ مدة قصيرة شيكت الزميلة لينا بآخر توقيع على أوراق استقالتها “براءة الذمة” لتتفرغ إلى معاناتها كي تتخلص من ظل الضيف الثقيل .. كانت قوية رغم التعب، تحدثنا في مواضيع كثيرة ما يخص المهنة وغيرها ، كانت طاقة إيجابية لا حدود لها ، متفائلة حد اليقين انها سوف تنجو مما هي فيه ، الا انه حرمها أخيرا فرحة عمرها وهي ترعى بيتها وزهرات شبابها محمد وآدم طلاب الجامعة ، وزوجها المهندس عابد عيسى الذي لم تذكره يوما إلا بكل تقدير واحترام وانه الأب والزوج المكافح والمثالي المتقاني في عمله المرهق لساعات طويلة في الترجمة لترميم فجوة الحياة المعيشية ..
لينا ديوب الصابرة المحتسبة المغادرة دنيانا وعالم الصحافة إلى العالم الأرحب ستبقين الشمعة المضيئة والزيت المتقد في زوايا العتمة.
حزينة جريدة الثورة .. حزين مكتبك في الطابق السادس والزملاء والزميلات.
لروحك السلام والمغفرة ، هي ترقد بأمان في ربوع وادي العيون التي أحببتها وأحبتك بناسها وترابها.