الثورة- هفاف ميهوب:
كلّما اتَّسع ظلامُ الحياة، استحضر نور عقله لإضاءة وعيها، وكلّما رأى الإبداع يتلاشى، تفنّن في الإبداع أكثر، وبلغةٍ تمرّست على طردِ قطعانِ النصوصِ، التي لا تجيد إلا اجترار مفرداتها.. إنه»أسعد الجبوري»..
الأديب والشاعر العراقي الذي دفعنا سموّ لغته لمحاورته، ليكون ما سألناه إياه، وباقتضابٍ قد لا يفي كلّ إنجازاته حقّها، لكنه يكفي للدلالة على بلاغةِ رؤاه وعمقها: «أنا الجنونُ وذات يومٍ شرّدني عقلي». إنه قولك، فمن أنتَ في هذه المعاني الصاخبة؟.
أنا من رمى قدميهِ على الطريق، واستغرقَ بتأمّلِ نموهما بترابِ اللغة، هكذا أدركتُ أن الأرضَ دائرةُ معارفٍ، تمشي بالمُعرّفِ وتستنطقُ المجهول. يوم وُلدت، نزلتُ من رحم أمي زمزمٌ على سطح العراق في سومر، لتأخذَ خَلاَيَاي دورتها الاندماجية، بترابِ وماءِ وهواءِ ونار الوجود، فكان لي عظمةُ الاِنتِماء لجوهر اللغة: الشِعر، لم يكن أبي شبيه عالم الفيزياء «أينْشتاين»، ولا من أخوة الخلفاء الراشدين، وليس هو من شعراء المعلّقات.. لا.. أبي رجلٌ مكافحٌ عصامي، أبيض القلب والوجه واليدين، ينتمي إلى الطبقة الوسطى. اشتغل بأكثر من مهنةٍ تجاريةٍ حتى جاءَ الحصار الأمريكي، لينتهي شهيداً مسموماً بحقنةٍ طبية فاسدة، أسوة بآلافِ الشهداءِ ممن ذهب الموت بأجسادهم، أثناء الحرب والحصار والإبادة التي تعرض لها العراق، مثلما تعرّض لها السوريون من قيصر الجحيم الأمريكي. أنا ابن هذا الرجل المقتول بسمِّ «بوش» الأب والابن، ومحارق الموت المشتعلة في بلدانٍ كثيرة حول العالم. تلك التي بدأت بالهنودِ الحمر، ولم تنتهِ بفلسطين وسوريا واليمن ولبنان، وبلدان أخرى تكاد أن تُمحى من الخرائط.
ما هو الشّعر الذي يؤمن به «الجبوري». الكائنُ الشعريّ ـ اللغويّ ـ التخيّلي؟
الشاعر الذي ولدَ وترعرع في كهوفي الباطنية، يؤمن بأن الشّعر قراءةٌ في المجهول، مثلما هو تأويلٌ لأحداثِ الشّاعر الداخلية، المتلاطمة مع حركة سير الكائناتِ في الخارج، وفيما لو حدثت خربطة بين الداخل والخارج، فإن الاحتكام للعرّافِ ضرورة لا بدّ منها.. لماذا؟. لأن العرّاف أشبه بمديرِ مصرف، عادة ما يملك القدرة على إقراضنا أحلاماً، يمكن التصرّف بها ولو بشكلٍ وهميّ. الأحلامُ أعظمُ بنوك التاريخ الوهمي على الأرض، ليس انحرافاً عن مصانع التخيّل وحسب، إنما مبدأ الأبوّة في الشّعر، مرضٌ لا تتأسّس على مرتكزهِ، سوى فيروسات الأوهام، كمرحلةٍ ابتدائية لموتِ النصّ.
ما رأيك بقارئ اليوم، وبنصوصٍ تروّج لها وسائل التواصل، رغم امتلائها بالثآليل والأورام اللغوية؟
القارئُ فرنٌ، إِمّا يَحرُقْ النصّ أو يَحترقْ بهِ، والنصوصُ أجسادٌ كلّ منها عضو بجسم اللغة، يتمتّع بدرجةٍ حرارية قد تتفاوت قليلاً مع الأخرى، احتكاكُ النصّ الجيد بقارئٍ سيّئ، ربما يحطّ من قدرةَ الاثنين على التعايش سلميّاً، فكلّ طرفٍ يسعى لتحطيم الآخر بأدواتهِ الخاصةِ، أيضاً، كلّ منهما يحاولُ تَجْرِيد الآخر من طاقته التي تتحكمُ بلغة المقابل. القارئ السيّئ مدمرٌ للنصّ، ومشتِّتٌ للمعنى العميق، ومُعرقلٌ لطيرانِ الكلمات بالمواصفات الجمالية البارعة، لذلك من النادر جداً أن يحرّرَ النصُّ الجيدُ، قارئاً موغلاً بفيروساتِ الأميّة التي تنهشُ بلُحوم الكثيرين من بشرِ وسائل التواصل الاجتماعي، ممن لا يملكون سوى الأصابع التي تكفلُ لهم سرعة البصم الأعمى، باللايكاتِ على كتاباتٍ لا ترتقي إلى مستوى الخربشاتِ على حيطان الشوارع.
بريدكَ سماويٌ ـ افتراضي، يستدعي شعراء في عالم الغيب. ماذا تقول لهم، وكيف ترى شعراءِ اليوم؟.
أيها الشعراء النائمون في غرفِ الغيب، لن يكون غيابكم مؤثراً بعد موسوعة بريد السماء الافتراضي التي اكتملت بالجزء السابع عشر حتى الآن.. عودتكم للقارئِ نقطةُ تحوّل في حياة الشّعر العالمي، فلستم إلا من الأحياءِ الذين تقوى بهم اللغةُ، وتتمدّدُ وتنطقُ بمختلفِ طبقاتِ الأصوات.. لم تبقَ قصائدكم حكراً على الأرشيف والأوقاف، وارتفعت سيرُ حيواتكم حواراتٍ تفيضُ بما هو معروف وسريّ وغامض. لقد حَرّكنا شجرة الشِعر في الفردوس، فذهب الغبارُ وسقطَ الرمادُ وحضرتم أنتم ثانيةً إلى الأرض، بأجسادٍ تشبهُ كاتدرائياتٍ بأجراس تدّقُ ولا تخمِدُ أصواتها حتى النيران. لقد فتحنا للعزلةِ باباً، وكَسَرنا العمى لتُعيدَ الأعينُ قراءةَ أعمالكم من جديد، فسلاماً يا نجوم بريد السماء الافتراضي، يا شعراء الحضور والغياب.اليوم، ورغم نَدْرَة الطوَاوِيس في الشعر العربي، إلا أن الغالبية منهم بلا ريشٍ.
بمعنى أدق: أن ضعف احتكاكهم باللغة وضمور نمو الأنجم بمخيلاتهم، نَتَفَ نرجسيتهم نَتْفاً، فتركَ أعمالهم على مائدة الديدان، أشبه بفطائر بيتزا فاسدة الخلطة.
ماذا عن تجاربك الشعريّة، في مختبر اللغة الذي اخترته لتنقيتها من فيروساتها؟.
الخلقُ الشعري ليس عملاً لغوياً فقط، بل هو مختبرٌ فسيولوجي، سيكولوجي شموليٌّ لأعمالِ مخلوقاتِ المخيّلة، المضادة للأكسدة والعقم والخوف والفشل، أثبتُ بتجاربي الشعرية، ما يمكن أن يُسمى تدمير اللغة القديمة، واستحداث لغتي الشعرية الخاصة. اللغة بجذورها التخيّلية ومعادنها التي لا فلزات فيها، تشبه فلزات أحد.
ترى «الظلامُ والأسلحة أحد أمراضِ الأرضِ». تقصدُ الحرب. ماذا تقول عنها وقد أهلكت كائناتها؟.
قلتُ عنها في روايتي «ثعابين الأرشيف: الحربَ ليست ميداناً للجرائم الكبرى وحسب، وإنما هي قطارٌ سكّتهُ الأجسادُ. لذلك، ومنذ رأيتُ الحربَ مرآةً تتزينُ أمامها الجثثُ والذئابُ، أحسستُ روحي أشبه بمصعدٍ مهجورٍ يزدحمُ بالبكاء. أقولُ أيضاً، وكشاعرٍ يشبهُ في زمنِ الحرب، سيارة إسعافٍ تَجرُّ التاريخَ إلى المقبرة: الصمتُ على جرائم الإبادة الشاملة، ليس موتاً إكلينيكياً للكتّاب والأدباء ورواد مواقع التواصل الاجتماعي فقط، وإنما مقبرةٌ أخلاقية للآلهة أيضاً. اللغةُ التي تخرجُ من القاموس للشارعِ، ولا تجد لكلماتها مكاناً إلا الشرايين والسباحة بالأحمر، تحاولُ هي الأخرى ألا ترى القصيدة، مقبرةً لشهداءٍ يملكون في الفضاءات، أمكنةً خالية من الأسلحة، ومن الصمت ومن الفاشيين. الحرب قطارٌ سكتهُ الأجساد/ الحربُ ثوبٌ تبرزُ من شقوقهِ الرئاتُ متفحمةً/ الحربُ نقيضي الحرب مهنة النّار/ الحربُ مقصلةُ الخراب.. الحربُ صلاةٌ على ألسنة الجحيم/ لا تحمل الحربُ على ظهرها إلا نصوص التلف/ في أناشيد الحرب زفير ُ التماسيح يرتفعُ/ الحربُ رحيلٌ لا يتوقف/ في رأس الحرب تسكن أراملُ التاريخ والجرذانُ والأحذية..
سأسألكَ سؤالك: أين تجلسُ الحربُ في الشّعر؟ .
ثمّة منطقة غامضة في الشّعر. منطقة مجهولة تُسمى قاع الجراثيم، وهي المكان البكتريُولوجي السّامّ، حيث تجلس الحربُ في الشّعر لمراقبة أطفالِ الكلمات، ممن يولدون من الرحم اللغويّ، كأحرفٍ وأصواتٍ وتصاوير، لأن الحربَ تراقبُ المواليد بهدف وضع الخطط منعاً لتكاثرها، هذا إذا ما عجزت عن تسميم الأرحام، كلمة أخيرة للشاعر العربي المسكون بالخيبة؟، لا تتركْ ظلكَ على التراب يتيماً مَكْسُوراً، احملْهُ مع الأرضِ بقبضةِ الرّيح معك، وكنْ بطلاً بمراثون اللغةِ والغرامِ والفاقة والمتاهة والأساطير، يا مَنْ اخترقتَ خطوطَ التابو والثوابتَ من تلك الحُصُون، ويا مَنْ ليس لكَ من الليلِ إلا عائلة الدُّبّ الأكبر، ومن النّهار إلا مصباح ديوجين. لا تُطلْ التأمّل بالجفاف، خُذْ كلماتكَ بالحبر المغناطيسي إلى أعالي اللغة، فإِنَّمَا الشِعرُ قوّةٌ صاعِدة في زمن الحرب والخراب والجنون، مثلما هو قوةٌ فريدةٌ بأوقات الحُبّ والتجلّد، وورق الرسائل الميتة إكلينيكياً، وتصاوير الذكريات المُمزَقة المقطوعة الوهمية مثل خط الاستواء، كُنْ أنت، لا شبيهكَ في مرآة الجدار أو في مرايا نصوص الآخرين العابرين، الكتابةُ في كلّ الطقوس مَصحاتٌ لنقاهة معارف العقل، من اضطرابات القلب وحرائقه العاطفية.