الثورة – هفاف ميهوب:
ماذا يبقى من حضارتنا إذا عجزنا عن التواصلِ بيننا؟.. ماذا يبقى من الإنسانية إذا فقدنا قدرتنا على الكلام؟.
أسئلة، قد يخطر لكلّ إنسانٍ أن يسألها، وكلّ حسب هدفه ودرجة وعيه وثقافته. لكن، إن كان من يسأل مبدعاً يستشرف مستقبل البشرية، على ضوء ما يراه في هذا العالم المظلم، فحتماً سيكون الهدف معالجة واقعٍ قاتمٍ وإشكاليّ، حتى ولو عبر الخيال لطالما، لم يعد خيالاً ما يحصل للإنسان في ظلّ التقدم، الذي حاولت الأديبة الأفرو- أمريكية “أوكتافيا بتلر” في غالبية أعمالها، تسليط الضوء على الإنسان الذي يسعى، لمقاومة تسلّطه التقني.
إنه ما فعلته في قصّتها القصيرة “أصوات الكلام”.. القصة التي تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، والتي تحكي فيها عن عالمٍ، ضربته جائحة أفقدت الناس الذين نجوا منها، القدرة على النطق واستيعاب الكلام، الأمر الذي تسبّب في معاناتهم، لعجزهم عن التواصل والحوار فيما بينهم، وقد تفاقمت هذه المعاناة، بسبب انتشار العنف والكراهية والقتل، بين من تبقّى منهم.
لم تكن “بتلر” وحدها، من استشرف مستقبل العالم، في ظلّ واقعٍ بات ما يدور فيه، أغرب وأفظع مما يمكن تخيّله، وبات حتى الإنسان العادي يتوقع الأكثر غرابة، فلا يندهش مثلاً، إن واجهه الأديب الروسي “ألكسندر بيليايف”، في “عالم لا يتحللِ” بسؤاله:
“تُرى ماذا يحدثُ لو اختفت البكتيريا فجأة من الأرض؟.. كيف سيكون شكلُ الحياةِ والبشرِ دونها؟”..
أما ما أراده من السؤال، فتبيان حالة البشر الذي قد يسعدهم أن يستيقظوا يوماً، على اختفاء البكتريا، لكنهم حتماً سيقولون قوله، وعندما يلاحظون اختفاءِ جميع أنواع البكتريا، وسواء الضارة أو النافعة:
“للأسف، لم يخسر العالم البكتيريا الضارة فقط، والتي لم يحزن أحد على فقدانها، بل خسر أيضاً عناصر مفيدة لا يمكن تعويضها. خسر جيشاً من العمال غير المرئيين، الذين يعملون ليلاً ونهاراً، لتحويل الأنسجة الميتة غير المجدية، إلى موادٍ كيميائية مفيدة، تعيد للحياةِ ما أخذه الموت”.
نلاحظ في قصة “بتلر” اختلالاً في الكون والحياة، بسبب عجز البشر عن التواصل لفقدانهم النطق، وهو أمرٌ له دلالاته في عالمٍ، حلّ الصمت فيه مكان الكلام، وبات التواصلُ عبر ذبذباتٍ تنقلها شاشاتٌ، فاقمت العنف والحقد والتردّي والظلام.
الأمر ذاته لاحظناه لدى “بيليايف” الذي أراد القول، إن كلّ ما يفقده الإنسان، ومهماً كان صغيراً، يؤدي إلى أزمةٍ حقيقية.
على سبيل المثال، إن اختفت البكتريا بنوعيها من الحياة، ورغم أنها لا مرئية:
“لا شيء يتعفّن، لا اللحوم ولا الجثث.. صارت الجثث تُغطّي كلّ مكان. يبدو أن البشرية وكلّ أشكال الحياةِ على الأرض، تنتظرها أحلك الأوقات بلا بكتيريا”.