الملحق الثقافي- حوار : عمار النعمة:
عندما يكتب تشعر بدفء كلماته، وجمال شعره تدرك كم يحمل هذ الرجل من الدماثة والمخزون الإبداعي، فمن قريته الوادعة الغافية على تخوم البادية حيث المدى الواسع من حقول الحنطة ونباتات الشيح والقندريس والحرمل، سماء صافية، حواكير بحجارتها الناتئة تتوزع الدروب والأزقّة، بيوت طينية عامرة بالطيبة والبساطة، كانت بداية الكاتب والشاعر حبيب الإبراهيم، الذي بدأ الكتابة والنشر مبكراً في الصحف والمجلات المحليّة، حيث كتب قصيدة النثر والمقالة والزاوية الصحفية.
كيف ينظر لقصيدة النثر، ما لها وما عليها؟ وغيرها من قضايا تتعلق بالفكر والثقافة والإبداع…كل ذلك كان في صلب الحوار الذي أجرته جريدة «الثورة» مع الكاتب والشاعر حبيب الإبراهيم، فكانت تلك الإجابات..
حبيب الإبراهيم تجربة طويلة في مجال الكتابة والنشر والإبداع، ماذا عن البدايات؟
في بيئة ذاخرة بكل مفردات الجمال، البهاء، البساطة، الطيبة، الحنين، تلمست أولى بوادر القراءة والاهتمام بالكتاب، بالرغم من ندرة الكتب والمجلات آنذاك، لم يكن بين يديّ سوى الكتاب المدرسي والراديو، لذلك كنت أتلقف أي فرصة لاقتناء مجلة أو كتاب، قرأت في سن الطفولة مجلة أسامة، وبعض الكتب والدواوين الشعرية التي كنا نستعيرها من الوحدة الثقافية المتنقلة والتابعة للمركز الثقافي في حماة، حيث ُ كانت تتردّد بشكل متقطّع على قريتنا (قصر ابن وردان) البعيدة نسبياً عن مركز المدينة.
هذه الطقوس دفعتني للمزيد من القراءة، التأمل، ومحاولات بكر من الكتابة بلا هوية ولا عنوان، وولدت في داخلي بذرة الكتابة ورصد كل ما أراه يستحق الاحتفاء كتبت الشعر (القصيدة العمودية) في المرحلة الثانوية وكنت أحتفظ بما أكتب ولم أنشره، بدأت علاقتي بالنشر خلال دراستي الجامعية أوائل الثمانينيات.
كتبت في كل الفنون الصحفية ، إلى جانب الشعر، ما الأقرب لديك؟
الكتابة الصحفية شيء ممتع وشيق، وتتيح للكاتب الإسهاب والتنوع في فنونها المختلفة، إلى جانب الغنى الثقافي والمعرفي وتشعب العلاقات، الكتابة الصحفية تختلف كليّاً عن كتابة الشعر والذي أراه أكثر رقة وجمالاً وبقاء.
الكتابة الصحفيّة آنية الأثر، فأنت في رحلة بحث يومي عن المعلومة، ذهنك لا يتوقف عن التفكير، بينما القصيدة دائمة ومستمرة الأثر، طقوس كتابتها مختلف، يمكن جمعها في مجموعة شعرية أو كتاب يحتفظ بهما الشاعر أو الكاتب، وتلقى القراءات النقدية المستمرة بمختلف وسائل الإعلام.
من بوابة الشعر وجدت نفسي في بلاط صاحبة الجلالة ، وبدأت النشر رغم كل الصعوبات، كنا نرسل المادة بالبريد وننتظر نشرها وكأننا بانتظار مولود جديد.
نشرت مئات المقالات الأدبية والحوارات الصحفية مع أدباء وفنانين ومبدعين في شتى المجالات، هذا التنوع في الكتابة إنعكس إيجاباً في قصائدي التي كتبتها على مدار أربعة عقود وجميعها منشورة في الصحف والمجلات المحلية والأدبية.
اختيارك لقصيدة النثر، هل لأنها الأسهل، أم لأنك وجدت نفسك فيها؟
أنا لم أختر قصيدة النثر، إنّما هي التي اختارتني، قصيدة النثر ليست سهلة ولا يستطيع أيّاً كان كتابتها إن لم يمتلك الموهبة الشعريّة ومخزوناً ضخماً من المفردات والصور، بمعنى آخر من يكتب قصيدة النثر يجب أن يكون فناناً يدرك جيداً كيف يوظّف ألوانه للدلالة على ما يعتمر بداخله من عواطف وأحاسيس وينثرها شعراً ماتعاً.
البعض يرى أن كتابة قصيدة النثر هو هروب من الوزن والقافية و… وبرأيي أن قصيدة النثر هي الأكثر حضوراً نظراً لما تمتلكه من عناصر قوة.
الشعرُ شعر ٌ.. سواء أكان تقليدياً أو حديثاً، إن التمسك بالنّظمْ والقافية لا يضعف من قوة قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، ولا التمسك بقصيدة النثر يلغي أهمية القصيدة العمودية واستمراريتها، المسألة ليست صراعاً بين القديم والحديث، المسألة هي حالة الإبداع التي يرسمها الشاعر عبر كلماته وصوره وسحر بيانه.
هناك من ينتقد قصيدة النثر، إلى درجة عدم الاعتراف بها ضمن جنس الشعر، ما رأيك بهذه المسألة؟
ما يميّز قصيدة النثر عن سواها من صناف الشعر الأخرى سواء القصيدة العمودية، أو قصيدة التفعيلة، هو التعبير بالصورة الفنيّة من خلال استخدام معان للكلمات تبدو غير اعتيادية، أو مألوفة بالنسبة للقارئ العادي فتكون الصورة أكثر إيحاءً، وأكثر دقّة وجمالاً، والصورة الشعريّة تتيح للشاعر المتمكن من أدواته الغوص في اعماق المفردات بحريّة مطلقة، وإيقاظ بواطن الجمال فيها بدقة متناهية وإدهاش ممتع ..
قصيدة النثر تعتمد على الاختزال والإدهاش ووحدة الموضوع والصورة الشعرية المبتكرة.
بالرغم من اختلاف وجهات النظر فإن قصيدة النثر أثبتت وجودها وتميزها وحضورها، ولا يمكن تجاهلها أو عدم الاعتراف بشرعيتها.
قصيدة النثر أكثر قدرة على التعبير وطرح القضايا التي تشكل هاجساً في المجتمع سواء ما يتعلق بالقضايا الوطنية، أو الاجتماعية أو الإنسانية.
تأثّرك بالبيئة يبدو جليّاً في مجموعتيك (الحواكير العتيقة وأناشيد الظلال) ما دور البيئة في حياة الشاعر والكاتب؟
المبدع أيّاً كان هو ابن بيئته، منها يستمد مفردات إبداعه، سهوب واسعة على مد النظر، غمار من الزرع كضفائر فتاة عاشقة، بيوت من الطين عابقة بالدفء والحنين، مزاريب تبدأ نشيجها مع أول قطرات المطر، الحصاد، بيادر تحيط بالقرية، أوابد أثرية ضخمة تحكي تاريخاً، حواكير عتيقة فيها كل الحكايات ..
في قصائد المجموعتين بوح شفيف وحنين للماضي الجميل، حيث مرابع الطفولة، هناك أمداء لا تنتهي من التأمل والملاحظة، كل هذه الصّور موشومة في ذاكرتي ومخيلتي، وعندما تطل القصيدة تطل هذه الصور بجمالياتها ولا أستطيع إلا أن أكون وفيّاً لتلك البيئة النبيلة.
تجربتك مع الصحف والمجلّات، وخصوصاً جريدة «الثورة»، تجربة غنية ومديدة، ما يعني لك ذلك؟
هي تجربة طويلة شاقة وشيقة، فيها متعة وفيها معاناة، بدأت علاقتي بالصحف من خلال جريدة الثورة والتي أعتز بأنني بدأت الكتابة بها، من خلال الرقابة الشعبيّة ثم تطورت التجربة للكتابة في الصفحة الثقافية حيث نشرت عشرات القصائد، ثم في ملحق الثورة الثقافي والذي تنفرد به جريدة «الثورة» حيث يحتضن الكتّاب والمبدعين في شتّى صنوف المعرفة، وما زلت أساهم أسبوعياً في الملحق بنشر المقالات والدراسات إلى جانب الخواطر والقصائد الشعرية.
لم تنقطع علاقتي مع جريدة «الثورة» منذ مطلع الثمانينيات وحتى الآن، لقد أتاحت الفرصة لكل مبدع أن يجد ذاته عبر صفحاتها الغنيّة والمنوعة.
كذلك نشرت قصائدي ومقالاتي منذ منتصف الثمانينيات في صحيفة البعث، الأسبوع الأدبي، بناة الأجيال، المسيرة الشبيبية، مجلة جيش الشعب، الموقف الأدبي و… وفي جريدة الفداء كتبت كل الفنون الصحفية من مقالة وخاطرة ومقالة وتحقيق وزاوية صحفية.
بالرغم من أنّك بدأت النشر مبكراً، لكنك تأخرت بطباعة نتاجك الشعري، ما أسباب ذلك؟
تأخرت بطباعتها لأسباب عديدة يأتي في مقدمتها غلاء الطباعة وظروف موضوعية عديدة، لكنني أصدرت هذا العام مجموعتين شعريتين الأولى بعنوان (الحواكير العتيقة) والثانية (أناشيد الظلال)، وقد كُتب َعنهما في الصحف المحليّة والمواقع الإلكترونية… وما زال لدي العديد من المخطوطات الشعريّة والنثريّة حيث أعمل حالياً على جمعها وتنسيقها وتدقيقها والبعض منها أصبح َ في مراحله الأخيرة.
كثيرة هي المواضيع والقضايا التي طرحتها في المجموعتين، هل من إضاءة على هذا الجانب؟
الشاعر أو الكاتب لا يستطيع إلا أن يكون معبّراً عن قضايا وطنه ومجتمعه وناسه، هو جزء منهم وعليه أن ينشر الطاقة الإيجابية ويثير بواطن الجمال في الأنفس..
لقد كتبت عن الوطن وما تعرض له من حرب عدوانية ظالمة طالت البشر والحجر والشجر، وكتبت عن الأم والشهيد وأم الشهيد، كتبت في كل القضايا الوطنية والاجتماعية والإنسانية.
كتبت عن المرأة برمزيتها، فهي مُلهمة لأي مبدع سواء أكان شاعراً أم كاتباً أم فناناً أم… كتبت لكل هؤلاء، فجاءت قصائدي نقيّة، صافيّة، عابقة بالطيبة والحنين…
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الأزرق، كَثُر َ الشعراء وقلّ الشّعر.. كيف تنظر لهذه الظاهرة؟
أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي للكثير من عديمي الموهبة وأنصاف الموهوبين بالظهور واعتلاء المنابر، وبتنا نرى العديد ممن لا يتقنون أبسط قواعد اللغة ويخطئون في النحو والإملاء ينشرون – ما يسمّونه – شعراً وهو بعيد كل البعد عن الشّعر وجمالياته.
نحن اليوم بحاجة إلى (فلترة) أو (غربلة) لما يُنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا يأتي دور النقد الحقيقي والذي يبتعد كليّاً عن المجاملات والعلاقات الشخصيّة.
ومع ذلك هناك أسماء قليلة ظهرت من خلال الفضاء الأزرق، عملت على صقل تجربتها وأغنتها، وهذه تستحق الثناء والتشجيع.
العدد 1216 –3- 12 -2024