رنا بدري سلوم:
“أنا التي جلدي القلق، ووسادتي الأبجديّة ودمي الحبر”.. لم أستطع أن أمرّعلى الكلمات مرورالكرام، فهناك دافعٌ جذبني كأنثى للكتابة عنها، و”بعيداً عن مقبرة الأبجديّة في دهاليزمطبخ الأحزان الشرقية” تطرق كلمات غادة السّمان تلك مخيّلتنا بمواقف حياتنا اليومية، لكاتبة أطلق عليها قاصة روائيّة شاعرة، لكنّها كانت وتبقى “ابنة العاصفة الحرّة التي تخمش وجه الصخرمتى تشاء”، هكذا عرّفتنا عن نفسها في كتابها “القبيلة تستوجب القتيلة” وهكذا تأثرنا مع كلّ حرف كتبته.وبدراسةٍ قيّمة وثريّة أعدّتها الدكتورة رتيبة موقّع، في كتابها الصادرعن اتحاد الكتّاب العرب بعنوان :”الصورة الفنيّة في نصوص غادة السمّان الغنائيّة”، فردت صفحاتها إلى تجربة السّمان في أربعة فصول يستبقها حديث عن شخصيّتها “أكتب كثيراً عن الحبّ لأنني أؤمن بأن الدعوة إلى الحبّ جزء من الدعوة إلى تحريرالنفس العربيّة مما علّق بها من مفاهيم مغلوطة تشوه إنسانيّتها وتعوق تفجير طاقاتها”.
إنه الحبّ الذي نفتقده اليوم ونحن بأمس الحاجة إليه، لا نزال نقرأه في الكتب، الحبّ الذي ربطته غادة السّمان بالخيال والتصوير والنزعة الخطابيّة والانزياحات اللغويّة لأغراض جماليّة، بأسلوب المباشرة والتقريروالوضوح، كلّ تلك الإبداعات بالمحتوى ليس من الضروري أن يكون شعراً، فوفقاً للباحثين أنّ السمان في كتابها “أعلنتُ عليكَ الحبّ”، وقفت في الصف الأول من الذين استطاعوا أن يخرقوا جدارالوهم الفاصل بين النثر والشعر.لذلك كانت التجربة الأدبيّة عند السّمان هي “كالأغنية النادرة في سيمفونيّة أدبنا العربي المعاصر”. تطرّقت دراسات الدكتورة رتيبة الموقّع إلى قضيّتين وهما الصورة الفنيّة والنثرالغنائي من خلال أعمال غادة السّمان ،أمّا الصورة فمجال مهم ودقيق من مجالات البلاغة والنقد يبقى المجال فيه مفتوحاً مهما كثرت فيه الدراسات لسعة آفاقه وانفتاحه على القراءات المتعدّدة بتعدد المادة المتناولة وإمكانيّة الجدّة والابتكار فيه، أما نثرغادة الغنائيّ فلقلة الالتفات إلى النثر الغنائي عموماً، وقلّة الالتفات إلى أعمال غادة التي تنتمي إليه خصوصاً على الرغم من أنها تجاوزت بها حدود الوطن العربيّ فترجمت إلى لغات عدّة، ولنقف عند ما تضمنته الدراسة على سبيل الذكر وليس الحصر:”منذ عرفتك وأنا تاء تأنيث مربوطة من عنقها بين المقبرة والسريرأتكوّرعلى نفسي فأصيرُ سواراً مغلقاً بصورة دائرة: تاء مربوطة أجل انطوي وأتحول إلى تاء كالرحم أصيررحماً لذاتي كي أحميها من ذكورة كوكبنا”.تشرح الدراسة قول السمان في البدء كان التعبير بالجملة الاسمية منذ عرفتك وأنا تاء تأنيث مربوطة وهنا جاء التعبير بالجملة الفعليّة منذ فارقتك تحوّلت من تاء مربوطة مثقلة بالأحزان إلى تاء مبسوطة للحريّة، وهذا التحوّل من الاسميّة إلى الفعليّة، ذو قيمة تعبيريّة مهمّة، بالتحوّل من السلبيّة إلى الإيجابيّة من الثبوت والسّكون والاستكانة إلى الحركة ورد الفعل، من الانهزام إلى الانتصار، من الانسحاق إلى الوجود، من الموت إلى الحياة وقد اقترن هذا التحول من الاسميّة إلى الفعلية بتحول التاء من حال الربط إلى أحوال أخرى تختار لها ثلاثة ألفاظ ممدودة مبسوطة مفتوحة وكل منها مقصود.وهو مثال بسيط يشرح تجربة السّمان في حضورالصورة الفنيّة في تجربتها الغنائية، إضافة إلى إحصاء الصورالاستعارية والتشبيهية والرمزية ومعها الأسطوريّة والصورالكنائيّة والبديعيّة والحرّة والصورة المجازيّة المرسلة، وقد لا يتسع هذا المقال الإحاطة بتجربة غادة السمان التي تعتبر علامة فارقة في الأدب العربي الحديث، إضافة إلى أنها امرأة لم تستكن بوجه الريح بل حملت رسالة المحبّة والتسامح، الرسالة التي لا يجيد حملها إلا المرأة والمرأة فقط.. وهي التي أمرت الرجل بكلّ الحبّ “آه، خُذ قلبي، وأقضمه كتفاحةٍ ولكن لا تسجنني داخل دائرة مقفلة”.