أحمد نور الرسلان – كاتب صحفي:
أثار تداول مقطع فيديو للسفير الأمريكي السابق في سوريا “روبرت فورد”، مجتزأ من محاضرة ألقاها في “مجلس بالتيمور للشؤون الخارجية” تعود لتاريخ 5 أيار/مايو 2025، جدلاً واسعاً في الأوساط السورية، وكان مادة دسمة للمتصيدين، حيث روّجت لتصريحات مفبركة مفادها أن فورد “اعترف بتدريب الولايات المتحدة للرئيس السوري أحمد الشرع ليكون بديلاً عن بشار الأسد”.
حملت المحاضرة عنوان “انتصر الثوار في سوريا.. والآن ماذا؟”، تحدث فيها “فورد” عن لقائه بالرئيس “أحمد الشرع”، في إطار مبادرة أطلقتها مؤسسة بريطانية غير حكومية متخصصة بحل النزاعات، وذكر فورد أنه دُعي للمساهمة في عملية نقل الشرع من “عالم الإرهاب إلى السياسة العادية”، لكن نقل فيديو مجتزأ من المحاضرة لاقي رواجاً واسعاً وردود كبيرة، جعله في اتجاه آخر في غير سياقه الحقيقي.
السفير “فورد” قال إن المبادرة جاءت في سياق وساطات الحوار بين الأطراف السورية، وأنه أجرى مع الرئيس “الشرع” ثلاث لقاءات منذ عام 2023، كان آخرها في كانون الثاني 2025 داخل القصر الجمهوري في دمشق بعد تولّي الشرع منصب الرئاسة، وتطرق إلى حديثه مع الرئيس لأول مرة قائلاً له بالعربية: “خلال مليون سنة لم أكن لأتخيل أنني سأجلس بجانبك”، فأجابه الشرع بنبرة هادئة: “ولا أنا”، وهو ما أثار ضحك الحضور.
وخلال مراجعة المحاضرة كاملة، تبين أن “فورد” لم يتطرق إلى أن الإدارة الأميركية أو أي جهة غربية “درّبت” الشرع أو “أعدّته” للرئاسة، بل شرح أن دوره اقتصر على جهود الوساطة بين أطراف الصراع، باعتباره خبيراً في حل النزاعات، وقال إن المؤسسة البريطانية التي دعت “الشرع” للحوار، التقت أيضاً ممثلين عن المعارضة ونظام الأسد، ضمن نهج شامل لتقريب وجهات النظر.
وتحدث “فورد” خلال سردية عن أحد اللقاءات، أن الرئيس “الشرع”، لم يعتذر عن عمليات سابقة في العراق وسوريا، لكنه أقرّ بأن “التكتيكات التي كانت تُستخدم في العراق لا تصلح عند حكم 4 ملايين شخص”، وذلك في معرض حديثه عن إدارة منطقة إدلب سابقاً، هذا الاعتراف وفق فورد كان لافتاً، لكنه لم يتضمن أي تبنٍّ لمسؤولية سياسية أميركية عن صعود الشرع إلى الرئاسة.
وبالنظر إلى الجملة التي تم تداولها وأثارت الجدل: “Bring this guy out of the terrorist world and into regular politics” (أخرجوا هذا الرجل من عالم الإرهاب إلى السياسة العادية)، كانت توصيفاً لدور المؤسسة البريطانية ومقاربة الوساطة التي شارك بها فورد كمستشار، وليس إقراراً بخطة أميركية لتسليم الحكم للشرع، وفق يبين سياق المحاضرة كاملاً، كما دعا “فورد” إلى رفع العقوبات عن سوريا وسحب القوات الأميركية، وقال إن هناك فرصة حقيقية لإعادة رسم العلاقات الأميركية السورية،
شرح سردية سياق المحاضرة ليس دفاعاً عن “فورد” بل توضيحاً لسياق المحاضرة الأساسي الذي تم تحريفه واستثماره ضد الرئيس “الشرع”، وخلق رواية زائفة تُقلل من انتصار السوريين على نظام الأسد، بعد كل التضحيات التي بذلت ودفعت خلال سنوات طويلة، من خلال الادعاء بأن ما حصل هو تدبير أمريكي، رغم أن موقف واشنطن خلال حكم الرئيس السابق “جو بايدن” كان واضحاً تجاه الملف السوري ودعم “قسد” والصمت على مجازر الأسد.
وبالعودة إلى شخصية “روبرت فورد” الذي تولى منصب سفير الولايات المتحدة الأمريكية في دمشق بين عامي 2010 و2011، كان آخر سفير أمريكي قبل قطع العلاقات الدبلوماسية مع نظام الأسد، والذي أظهر بداية موقف مناصر لثورة السوريين بزيارته مدينة حماة عام 2011، وتعرض موكبه لهجوم بالحجارة والبيض في إحدى المناسبات، في ما بدا محاولة لتأليب الرأي العام ضده من قبل نظام الأسد.
لكن فورد وبعد مغادرته سوريا في شباط/فبراير 2012، واستقالته من وزارة الخارجية الأمريكية في 2014، ورغم تصريحه أن بلاده “خذلت الشعب السوري ولم تفعل ما يكفي لحمايته”، في إشارة إلى سياسة إدارة أوباما التي اكتفت بالدعوات السياسية دون إجراءات رادعة ضد الأسد، تبنّى تدريجياً مواقف أقل اندفاعاً تجاه إسقاط نظام الأسد.
حيث أن فورد وعقب خروجه من السلك الدبلوماسي، حافظ على حضور إعلامي وتحليلي في الشأن السوري، لكنه في مقابلات متعددة، لمّح إلى فشل الولايات المتحدة في بناء بدائل قوية للأسد، وانتقد المعارضة السورية بسبب انقساماتها، كما أبدى تشككه من جدوى دعم بعض فصائل المعارضة المسلحة، وبدا أكثر تحفّظاً تجاه التغيير السريع غير المحسوب.
إن التوقيت الذي أُعيد فيه تسليط الضوء على تصريحات فورد أثار تساؤلات، خاصة أنه تزامن مع تحوّلات بارزة تشهدها سوريا، أبرزها رفع العقوبات الأميركية، وعودة سوريا إلى المشهد العربي والدولي بقيادة جديدة، إلى جانب نقاشات دولية حول العدالة الانتقالية والمصالحة.
وقد يكون ترويج المقطع المجتزأ جزءاً من محاولات للتشويش أو التشكيك في المرحلة السياسية الجديدة، أو ابتزاز معنوي لمواقف واشنطن.
وفي سياق الرد الرسمي السوري، نقلت قناة “الجزيرة” عن مصدر في الرئاسة السورية” نفيه صحة المعلومات التي أوردها السفير روبرت فورد عن لقاءات مع الرئيس الشرع بإدلب، وأوضح المصدر أن اللقاءات المذكورة كانت ضمن اجتماعات مع مئات الوفود وخصصت لعرض تجربة إدلب.
وذكر أن أحد الوفود تابع لمنظمة بريطانية للدراسات وكان من ضمن أعضائه السفير روبرت فورد، وأن أحد الوفود تابع لمنظمة بريطانية للدراسات وكان من ضمن أعضائه السفير روبرت فورد، مشيراً إلى أن الجلسات اقتصرت على أسئلة عامة تتعلق بالتجربة ولم تتضمن ما ورد في تصريحات فورد، وفق المصدر الرئاسي.
والثابت أن “روبرت فورد” لم يكن صانع القرار الأميركي، لكنه كان أحد أبرز وجوه واشنطن في الملف السوري خلال لحظة تاريخية فارقة، دعمه للثورة في بداياتها حقيقي، وانتقاداته اللاحقة للمعارضة والنظام على السواء واقعية، أما الزج باسمه اليوم في سياق نظريات “التدريب والتجهيز”، فلا يجد ما يسنده في الوقائع الموثقة، وتبقى تجربته نموذجاً للدبلوماسي الذي دعم قضية شعب لكنه صُدم بإخفاقات السياسة الأميركية، وفي النهاية انسحب بصمت، تاركاً المجال لمزيد من الأسئلة حول دور الغرب في مسارات التغيير في العالم العربي.