الثورة – ثورة زينية:
بين زقزقة العصافير وظلال أشجار الكينا والصنوبر، تقبع حدائق دمشق في قلب جدل محتدم بين أولوية التنمية وضرورة الحماية البيئية.. في وقتٍ تتجه فيه محافظة دمشق إلى فتح باب الاستثمار في بعض الحدائق العامة.
ويعلو صوت المواطنين والمهتمين بالشأن البيئي، محذرين من تحوّل هذه المتنفسات الطبيعية إلى مساحات تجارية تُفقدها روحها الأصلية.
فهل استثمار الحدائق فرصة لتحسين الخدمات؟ أم تهديد لجوهر الفضاءات العامة؟
تراجع عن استثمار حديقة الجاحظ
ما حصل خلال الأيام الماضية من اعتراضات وارتفاع لأصوات الأهالي القاطنين في حيي أبو رمانة والمالكي يشهد على مدى التخوف من أن تتحول الحدائق إلى ملكيات خاصة غير معلنة لأصحاب المشاريع الاستثمارية.
وبالفعل نجحت تلك الأصوات في إجبار المحافظة عن التخلي عن فكرة الاستثمار في حديقة الجاحظ وتكليف لجنة من أهالي الحي لإعادة تأهيلها، وللعلم تتوسط حديقة الجاحظ حي المالكي، وتُعتبر واحدة من أجمل وأشهر الحدائق في العاصمة وسميت نسبة إلى الأديب العربي عمرو بن بحر الجاحظ، ويتوسطها تمثال له، أنشئت في منتصف القرن العشرين، وفي السنوات الأخيرة، طرحت عدة أفكار لاستثمار أجزاء من الحديقة عبر إقامة كافتيريا أو مسرح مكشوف.
“الثورة” اضاءت استنادا لهذا الحدث على مجموعة من النقاط التي تتعلق بواقع استثمار الحدائق في دمشق في المادة التالية.
ألا نخسر المكان
أحب القراءة هنا.. وأخشى أن يغلق جزء من الحديقة لمصلحة استثمار غير مناسب، ويضيف المهندس المتقاعد المتدثر بظلال شجرة في حديقة الجاحظ: لا أمانع إن كان سيحسن مستوى الخدمات والمرافق العامة في الحديقة لكن بشرط ألا نخسر المكان.
أبو أيهم- بائع قهوة متجول في حديقة الجاحظ قال: أنا مع وجود كافيات وأكشاك في الحدائق تخدم روادها على أن يبقى الدخول مجانياً ومتاحاً للجميع.
يتجول برفقة اطفاله الثلاثة داخل مسارات الحديقة المهندس المعماري جواد حسن بين أن استثمار الحدائق يجب أن يكون ذكيا ومتوازنا ولابأس من إدخال نشاط اقتصادي من دون طمس المشهد البيئي، فالحديقة ليست مساحة خضراء على حد تعبيره لكنها نمط حياة، مع تحسين مستوى النظافة والخدمات وخلق فرص عمل وتوفير مرافق يحتاجها الزوار.
تشوه وظيفي وبيئي
الخبير في تخطيط المدن المهندس جورج رفول عرف استثمار الحدائق بالسماح لجهات خاصة باستخدام أجزاء من الحديقة العامة لإقامة مشاريع ترفيهية أو تجارية بما يعود بالنفع الاقتصادي من دون إلغاء دور الحديقة كمكان عام متاح لجميع فئات المجتمع، موضحاً أن الهدف المعلن هو تحقيق عائد مادي وتحسين مستوى الخدمات، لكن التخوّف الأساسي يكمن في التعدي على المساحات الخضراء وتحويلها لمشاريع ربحية مغلقة ومشوهة وظيفياً وبيئياً.
ويعدد نماذج الاستثمار في الحدائق وفق مستوى وحجم المشروع من أنشطة خفيفة تتضمن إنشاء أكشاك، ومطاعم، ومقاه، وعربات لبيع الزهور، والمنتجات الحرفية على سبيل المثال، إضافة لمناطق ألعاب حديثة للأطفال وفعاليات فنية وموسيقية.
وقد تتضمن- حسب المهندس رفول، مشاريع بنى تحتية من مثل إنشاء مرائب سيارات تحت الأرض كما كان مقترحاً في وقت سابق في حديقة الشعلان والصوفانية، كمان الاستثمار قد يساهم في تحسين الإنارة وتركيب كاميرات وتوفير إنترنت مجاني.
استثمار متوازن
ويبين أن الطريق نحو استثمار متوازن للحدائق العامة يجب أن يمر عبر حماية هوية المدينة والاستفادة من دون تضرر المساحات الخضراء المتبقية، مضيفاً: في ظل تزايد ضغوط التوسع العمراني والتحديات الاقتصادية، باتت الحدائق العامة في المدن مساحة حيوية للراحة النفسية والتواصل الاجتماعي، لكنها في الوقت نفسه أصبحت هدفا للاستثمار التجاري.
إذاً كيف يمكن تحقيق توازن بين الاستفادة الاقتصادية وحماية هذه المساحات التي تمثل هوية المدينة وروحها؟.
يجيب المهندس رفول: أول قواعد الاستثمار الناجح في الحدائق العامة هو التأكيد على بقاءها مفتوحة ومجانية للجميع، فهذه المساحات ليست مجرد قطع أرض خضراء، بل متنفس ضروري لكل فئات المجتمع، ولا يجوز تحويلها إلى مناطق حصرية أو ذات رسوم دخول تحد من حرية الاستخدام، كما يجب تحديد نسبة البناء المسموح بها بدقة عالية، بحيث تظل الغالبية العظمى من الحديقة مساحة طبيعية خضراء والمشاريع التي تُقام يجب أن تكون صغيرة الحجم وخفيفة البناء وقابلة للإزالة، كي لا تغير من طبيعة الحديقة أو تؤثر على بيئتها، مشدداً على أنه لا يمكن لأي استثمار في الحديقة أن يتم من دون إشراك المجتمع المحلي وأصحاب الشأن في اتخاذ القرار.
المشاركة المجتمعية تضمن شفافية العملية وتحافظ على الحقوق الحضرية التي لا يحق التفريط بها، كما أن الرقابة الدورية على المستثمرين والتزامهم بالشروط البيئية والاجتماعية، ضرورة لضمان عدم استغلال الحدائق بطريقة مفرطة أو غير مستدامة.
تغيير هوية الحديقة
أحد المعنيين في محافظة دمشق فضل عدم ذكر اسمه بين أن الاستثمار في الحدائق عادة ما يتم من خلال مزايدة علنية أو طرح عروض ومن ثم توقيع عقد محدد المدة بين 5 و15 سنة مع وضع دفتر شروط واضحة تمنع البناء العشوائي، وتلزم المستثمر بالحفاظ على الطابع العام للمكان ويتم إما بتقاسم الأرباح أو دفع بدل استثمار للمحافظة.
لكنه يوضح بأن ضعف المتابعة والرقابة بعد التعاقد يبقى أحد أبرز الإشكالات، ما يجعل بعض المشاريع تتجاوز المسموح.
وترى الخبيرة البيئية لمياء دالاتي أن الاستثمار، إذا لم يكن مقنناً، قد يتحول إلى شكل من الخصخصة غير المعلنة للحدائق، حيث يخشى بعض الأهالي من تضييق المساحات المتاحة لأطفالهم وكبار السن، وتحويل الحديقة إلى مكان نخبوي أو مدفوع الأجر.
لكن الخبيرة دالاتي تخشى أن تؤدي استثمارات الحدائق مستقبلا لتقليص المساحات الخضراء لصالح الأبنية وارتفاع أسعار الخدمات بما يُقصي الطبقات الفقيرة وفقدان الحدائق لوظيفتها العامة المجانية وضعف الرقابة على المستثمرين واحتمال تغيير هوية الحديقة التاريخية أو الثقافية.
كلمة المحرر..
في ظل تلوث المدن وازدحامها وضيق المساحات، تمثل الحدائق العامة متنفساً لا يمكن الاستغناء عنه واستثمارها بشكل غير متوازن قد يؤدي إلى خسارة هذا الحق الأساسي، وبالتالي فقدان المدينة لأحد أهم معالمها الإنسانية والطبيعية.
الحديقة ليست مجرد مساحة خضراء، بل هي حق حضري يجب الحفاظ عليه بشفافية وبمشاركة الجميع، بعيدا عن قرارات فردية تقيد حرية المواطن وتطمس الهوية البيئية للعاصمة.