الثورة – إيمان زرزور :
منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، لم يسلم قطاع التعليم من نيران الحرب وانقساماتها الجغرافية والسياسية، المدارس لم تعد أماكن للعلم، بل تحوّلت في كثير من الأحيان إلى ملاجئ، أو ركام، أو مساحات مؤقتة يسكنها القلق والاضطراب، أو مقرات عسكرية ينطلق منها الموت إلى ماحولها.
وعلى وقع الانهيار الاقتصادي وتعدد السلطات قبل سقوط نظام الأسد، تشتّت النظام التعليمي بين مناهج متضاربة وبُنى مدمّرة، فيما تحوّل التعليم إلى معركة يومية ضد الجهل والفقر والشتات، حيث بات الانقسام الجغرافي انعكاساً مباشراً لانقسام تربوي أعمق، حيث تعتمد كل منطقة على منهج مختلف، يحمل بصمات الجهة التي تديرها.
ففي مناطق سيطرة النظام سابقاً، يُدرّس منهاج رسمي تقليدي يحاول الحفاظ على ما تبقى من رمزية الدولة، أما في مناطق الشمال الغربي، فتنتشر كتب معدّلة بتوجهات مغايرة ترفض إرث البعث السابق، فيما تجمع المدارس في شمال شرق سوريا بين مناهج كردية وعربية ودولية بإشراف جزئي من منظمات أممية.
هذا التعدد المنهجي أدى إلى فوضى معرفية، جعلت الطالب السوري عرضةً للتنقل بين أنظمة تعليمية لا تعترف ببعضها، ما أضعف فرصه في التحصيل والانخراط الجامعي لاحقاً، وهدّد بتفكك الهوية الوطنية، في ظل تناقض السرديات التاريخية والرؤى التربوية بين المناهج.
لم يكن المعلم بعيداً عن هذه الأزمة، فقد تراجعت مكانته الاجتماعية، وانهارت قيمة راتبه إلى مستويات متدنية، ما أجبر الكثيرين على العمل في مهن أخرى لتأمين قوت يومهم، أو الهجرة خارج البلاد بحثاً عن حياة أكثر استقراراً.
أما من بقي، فيعمل إما بأجور زهيدة أو بشكل تطوعي، وأحياناً في ظروف مأساوية، داخل خيام أو عبر الإنترنت الضعيف، متحملاً مسؤولية الحفاظ على الحد الأدنى من التعليم لأجيال أنهكها النزوح والخوف، مع غياب برامج التدريب والدعم النفسي فاقم الوضع، فالمعلمون يفتقرون إلى الأدوات التي تساعدهم على التعامل مع طلاب يعانون من صدمات الحرب، وسط غياب شبه تام لسياسات تربوية واضحة تراعي الأثر النفسي والاجتماعي للنزاع.
من بين 19,426 مدرسة في سوريا، تشير وزارة التربية والتعليم إلى أن نحو 7,849 مدرسة خارجة عن الخدمة، بفعل الدمار أو الاستخدام العسكري أو الإهمال، ما يشكّل أحد أبرز التحديات أمام القطاع، كما يواجه النظام التعليمي أزمة تسرب مدرسي، حيث يُقدّر عدد الأطفال خارج المنظومة التعليمية بنحو 2.4 مليون طفل، يعيش كثير منهم في مخيمات أو في مناطق محرومة من الحد الأدنى من الخدمات التربوية.
وكان أعلن وزير التربية والتعليم محمد عبد الرحمن تركو، في 9 حزيران/يونيو 2025، عن وضع خطتين للاستجابة: واحدة طارئة، والأخرى استراتيجية. وتشمل الخطة الطارئة خمسة محاور رئيسية: الأبنية المدرسية، المعلم، المناهج، الطالب، والإدارة التربوية، وتهدف إلى استيعاب التحديات الفورية، خاصة في ظل توقعات بعودة نحو 1.5 مليون طالب من دول الجوار والمخيمات.
أما الخطة الاستراتيجية، فتركّز على تطوير العملية التعليمية على المدى البعيد، وتبني مناهج مركزية جديدة أكثر عصرية وملاءمة للواقع، سيتم العمل على بنائها بعد انتهاء امتحانات العام الدراسي 2025-2026، من خلال ورش عمل ومعايير تشاركية يساهم فيها خبراء محليون ودوليون.
في ظل هذا الواقع المأزوم، بات إصلاح التعليم في سوريا ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل، ويستلزم ذلك توحيد المناهج التعليمية تدريجياً على أسس علمية ووطنية مشتركة، تراعي التنوع وتحفظ الهوية، وإعادة تأهيل المدارس المدمّرة وتوفير بيئة تعليمية آمنة ومستقرة، ورفع رواتب المعلمين واستحداث برامج تدريب وتطوير مهني مستمر، وإطلاق برامج دعم نفسي وتربوي للطلاب والمعلمين على حد سواء، كذلك تعزيز المبادرات التعليمية غير الرسمية للوصول إلى الأطفال في المناطق المهمّشة أو الخارجة عن السيطرة.
وسط هذا الظلام، يبقى التعليم في سوريا شكلاً من أشكال المقاومة اليومية، فالطالب الذي يذهب إلى المدرسة في ظل كل هذا الانهيار، والمعلم الذي يواصل أداء رسالته رغم كل الإحباطات، يجسّدان إرادة وطن لا يزال يراهن على العقل والمعرفة لبناء مستقبله، فالتعليم لا يُقاس فقط بعدد المدارس أو الكتب، بل بقدرتنا على ترميم الإنسان السوري، وإعادة بناء الهوية، وإحياء الأمل في غدٍ مختلف. ففي بلد يتأرجح بين الذاكرة والخراب، يظل التعليم الحصن الأخير.