الثورة – لينا شلهوب:
ما زال الأمل معقوداً على إحياء مشروع يفترض أن يكون من أكثر المشاريع المائية الحيوية طموحاً في البلاد، والذي تم إقراره عام 2020، وهدفه الرئيسي: تأمين مصدر مائي داعم واحتياطي يغذي المناطق الساحلية والوسطى والجنوبية، لتوفير مياه الشرب، ودعم القطاعات الصناعية والسياحية التي تعاني من أزمة مياه متفاقمة.
فهل من مراجعة جديّة لهذا المشروع أو على الأقل كشف مصيره الحقيقي، فالتعامل مع المياه كملف استراتيجي لا يحتمل الإهمال أو التسويف، وإذا كانت هناك عوائق حقيقية حالت من دون تنفيذه، فليكن هناك توضيح رسمي، وإعادة تقييم للمشروع، وربما البحث عن صيغ تنفيذ بديلة تتماشى مع الواقع الاقتصادي الراهن.
أما أن يُترك مصيره في الظل، وسط حالة من الصمت الرسمي والشحّ الإعلامي، فذلك لا يخدم لا المواطن ولا مستقبل الأمن المائي في سوريا.
غيبوبة إدارية
المشروع كان من المفترض أن يدخل حيّز التنفيذ على مراحل خلال ثلاث سنوات، لكنّه اليوم، بعد مرور أكثر من خمس سنوات، لا يزال عالقاً في مرحلة “الدراسة” أو ما يشبه الغيبوبة الإدارية.
وفقاً لبيانات رسمية صدرت سابقاً عن وزارة الموارد المائية، فقد تم التعاقد مع شركة نمساوية متخصصة لإجراء الدراسات الفنية المطلوبة، ضمن منحة مقدّمة من الحكومة الصينية، لاستخدام أحد الأحواض المائية الداخلية كمصدر إضافي أو احتياطي، لم تُكشف حينها تفاصيل دقيقة حول اسم الحوض أو موقعه، لكن مصادر في الوزارة أكدت أن المشروع “يستهدف حلّاً جذرياً لأزمة المياه المزمنة” في بعض المناطق الحيوية.
بدورها وزارة الموارد المائية آنذاك، التي كانت تتولى الملف، سارعت إلى إبرام اتفاق مع الشركة النمساوية هدف إعداد خارطة طريق علمية ومفصّلة لاستثمار أحد الأحواض المائية الداخلية وتحويله إلى مصدر داعم للمياه، يمكن الاعتماد عليه في حال تراجع المنسوب في المصادر التقليدية، لا سيما في ظل تغيرات مناخية وموجات جفاف متكررة.
لكن مطلع عام 2021، وعند سؤالنا عن مدى تقدّم المشروع، أجابت إحدى المهندسات العاملات في الوزارة (طلبت عدم ذكر اسمها): أن “التأخير كان لأسباب خارجة عن إرادتنا، وجاء انتشار فيروس كورونا وعطّل عمليات التنقل، وجمع العينات، حتى الفرق الأجنبية لم تتمكن من الحضور إلى سوريا، ما أرجأ العمل الميداني لفترة طويلة”، مضيفة “رغم ذلك، تواصل العمل من الداخل عبر جمع البيانات الأولية، والمسوحات الطبوغرافية باستخدام كوادر محلية، على أن تُستكمل الدراسات خلال ثلاث سنوات.” لكن مضى العام 2023، ولم يُعلن أي شيء عن نتائج تلك الدراسات أو بدء تنفيذ أي جزء من المشروع.
خارج الأولويات
مصدر إداري سابق في مديرية التخطيط التابعة للوزارة، تحدث لـ”الثورة” بشرط عدم كشف هويته، إن المشروع لم يُلغَ بشكل رسمي، لكنه لم يعد ضمن الأولويات التنفيذية، موضحاً “تغيرت الأولويات بعد عام 2021 بسبب الضغوط الاقتصادية المتزايدة، ونقص التمويل، وارتفاع تكاليف التنفيذ، تعليق بعض أنشطة التعاون الدولي، إلى جانب مشكلات لوجستية في تأمين المعدات والكوادر الفنية.
كلها عوامل ساهمت في تأخير انطلاق المرحلة التنفيذية، معتبراً أن غياب المتابعة الإعلامية والدعم السياسي للمشروع ساهم في تهميشه تدريجياً، مشيراً إلى أن أي مشروع بهذا الحجم يحتاج إلى إرادة سياسية قوية ومراقبة حكومية مستمرة.
الخبراء يحذرون
الخبير في شؤون المياه والبيئة، الدكتور سامر. س (أستاذ جامعي في كلية الهندسة المدنية)، وصف المشروع أنه ضروري من الناحية الاستراتيجية، قائلاً: ما لم يتم تأمين مصادر احتياطية ومتجددة للمياه، فإن البلاد ستواجه مشكلات أكثر تعقيداً في السنوات القادمة، خاصة مع التغيرات المناخية وتراجع الهطول المطري.
وعرّج قائلاً: مثل هذه المشاريع تحتاج إلى استمرارية لا تتأثر بتبدلات الظرف السياسي أو الصحي، ونرى دولاً تستثمر في مشاريع المياه لعقود، بينما نحن بالكاد نحافظ على ما هو موجود.
خلال الفترات القريبة الماضية، حاولنا الحصول على تصريحات رسمية، لكننا لم نتلقّ أي رد على الاستفسارات، وبرّر بعض الموظفين التأخير بـ”أسباب مالية ولوجستية”، دون تفاصيل إضافية.
ويبدو أن المشكلة لا تكمن فقط في توقّف المشروع، بل في غياب الشفافية بشأن مصيره، أو إعلان أي تقييم رسمي حول ما تم إنجازه، وما بقي معلّقاً.
أزمة مياه لا تنتظر
في العديد من المدن ، يعاني المواطنون من تقنين مياه يصل إلى أسابيع في بعض المناطق، وفي الساحل، الذي يُفترض أنه الأغنى مائياً، لم تسلم مدنه من الأزمات، خاصة خلال فصل الصيف، حيث يرتفع الطلب وتتناقص المصادر بسبب الاستنزاف والحرارة المرتفعة.
المفارقة المؤلمة أن حاجة البلاد إلى مشاريع من هذا النوع باتت اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، المدن الكبرى تعاني من نقص حاد في مياه الشرب، والخدمات المائية في الريف تزداد سوءاً مع كل صيف جديد، كما أن قطاعي الصناعة والسياحة، اللذين يعوّل عليهما في عمليات إعادة الإعمار، يعانيان بدورهما من شحّ الموارد المائية، مما يحدّ من جاذبيتهما الاستثمارية.
وفي هذا السياق، يُطرح السؤال الأكبر: هل يُعقل أن يتم التخلي عن مشروع استراتيجي كهذا دون شفافية أو توضيح؟ وهل بات من المعتاد أن تتحوّل الوعود إلى أرشيف رقمي، دون محاسبة أو تقييم؟
بالانتظار
المشروع الذي وُعد به المواطنون منذ عام 2020 كجزء من “حل مستدام لأزمة المياه”، يبدو اليوم وكأنه لم يكن سوى خطة على الورق، في غياب الإرادة التنفيذية والشفافية الحكومية، لتبقى الأزمات تتفاقم، والمشاريع الاستراتيجية تتآكل بين التصريحات والبيروقراطية.
وفي وقت بات فيه الأمن المائي من أعمدة الأمن الوطني، يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستتمكن الحكومة السورية الجديدة من إنقاذ هذا المشروع وإعادة إحيائه؟ أم سيكون مصيره كمصير مشاريع كثيرة أُعلن عنها في لحظة تفاؤل، ثم غابت في ظلال النسيان؟