بنية أساسية للوجود والفكر.. رحلة التعددية من دريدا إلى تايلور

الثورة – سعاد زاهر:

التعددية أكثر من مجرد موضوع فكري، إنها ضرورة إنسانية وسياسية عميقة، فكرتنا عن التعددية تتجاوز فكرة “تعدد الآراء” إلى سؤال أعمق، كيف نحيا معاً في اختلافنا، وكيف نعترف بغيرنا من دون أن نحاول أن نمحوهم أو نذوبهم في قالب واحد؟

هنا يبرز صوت الفلسفة، إذ تقدم لنا من خلال عيون كبار فلاسفتها رؤى تنير طريقنا نحو فهم هذا التحدي، في مقالنا نتحاور فلسفياً مع أفكار اثنين من أهم فلاسفة العصر الحديث: الفرنسي جاك دريدا والكندي تشارلز تايلور.

الأول يقدم التعددية كحقيقة بنيوية في اللغة والوجود، والثاني يرى في التعددية الثقافية دعوة للاعتراف بالآخر كشرط أساسي للعدالة والعيش المشترك، من خلال كتابيهما المحورية، “الكتابة والاختلاف” (1967)، والتعددية الثقافية: فحص سياسة الاعتراف” (1994)، نحاول أن نفهم كيف يتعامل كل منهما مع التعددية، وكيف تلتقي رؤاهما أو تختلف، في إطار همّ مشترك، كيف نعيش معاً على أرض مشتركة بدون أن نلغي اختلافاتنا.

جاك دريدا، التعددية في عمق الاختلاف

جاك دريدا، أحد أعظم مفكري التفكيكية، لم يكن يفكر بالتعددية على أنها مجرد تنوع في الآراء أو الثقافات، بل اعتبرها بنية أساسية للوجود والفكر، في كتابه “الكتابة والاختلاف”، الذي يُعد من أهم أعماله، يكسر دريدا الثوابت التي شكلت الفلسفة الغربية لعقود، المركزية، الهوية الثابتة، والحضور الكامل.

بالنسبة لدريدا، لا وجود لذات أو فكرة أو معنى مكتمل، بل كل شيء في حالة تأجيل دائم للمعنى، وهذا ما سمّاه الاختلاف (Différance) الاختلاف ليس فقط فرقاً بين الأشياء، بل هو ما يجعل المعنى نفسه ممكناً، هذا يعني أن كل شيء، كل نص، كل هوية، تتكوّن وتتفكك عبر علاقاتها بالآخر، عبر اختلافات لا تنتهي.

من هنا تنبع أهمية التعددية عند دريدا، هي ليست مجرد اختلاف سطحي، بل تعدد متجذر في بنية كل شيء، التعدد هو في داخل كل كينونة، وهو شرط لا مفر منه لظهور المعنى، ولوجود العالم نفسه، لذلك عندما نفكر في التعددية، علينا أن ندرك أننا أمام حقيقة عميقة، لا يمكن تجاهلها أو اختزالها.

النتيجة المنطقية لذلك هي أن الحياة المشتركة لا يمكن أن تُبنى على محاولة فرض وحدة زائفة أو تطابق كامل بين الناس. التعددية عند دريدا، تعني الانفتاح على الآخر في كل أشكاله، حتى وإن كان غير قابل للاحتواء، وهي دعوة إلى الضيافة الحقيقية، حيث يُرحّب بالآخر كما هو، من دون شروط مسبقة.

تشارلز تايلور: التعددية والاعتراف بالهوية

في الجانب الآخر من المحيط، وفي زمن متأخر عن دريدا بعقود قليلة، يقدم تشارلز تايلور في كتابه “التعددية الثقافية: فحص سياسة الاعتراف”(1994) دراسة فلسفية حيوية حول التعددية من منظور سياسي واجتماعي.

تايلور لا يعارض فكرة التعددية، بل يعتبرها حقيقة اجتماعية وسياسية يجب التعامل معها بحكمة وعدالة.

يرى تايلور أن الهوية الشخصية ليست مجرد مسألة فردية منعزلة، بل تتشكل عبر الاعتراف من المجتمع والآخرين، الاعتراف هنا هو أكثر من مجرد تقدير، إنه شرط أساسي لكي يشعر الفرد أو الجماعة بأنهم معترف بهم ككائنات ذات قيمة وكرامة، عندما يُرفض الاعتراف، يحدث ما يسميه تايلور “الظلم الرمزي” الذي يجرح الهوية ويجعلها هامشية.

من هذا المنطلق، يؤكد تايلور أن المجتمعات الحديثة يجب أن تعترف بالتعددية الثقافية، ليس فقط كحقيقة واقعة، بل كقيمة يجب الدفاع عنها، هذا الاعتراف لا يعني التخلي عن الوحدة الوطنية أو التضامن الاجتماعي، بل يتطلب بناء “إجماع متداخل” بين مختلف الجماعات، يتيح لكل فرد أن يحتفظ بهويته، ويشعر بالاحترام والعدالة.

لذلك، التعددية عند تايلور ليست فقط تسامح مع الاختلاف، بل اعتراف بالآخر وإعطاء مساحة له ليعيش هويته بشكل كامل، هذا يجعل التعايش في المجتمعات الحديثة أكثر عدلاً وأعمق معنى.

حوار بين الفكرين، دريدا وتايلور

إذا نظرنا إلى فكرتي دريدا وتايلور معاً، نلاحظ تلاقحاً في جوهرهما، رغم اختلاف المنطلقات، دريدا يطرح التعددية من منطلق فلسفي بنيوي، يرى أن الاختلاف متجذر في كل شيء، والذات هي نفسها نتيجة لتموضعها في شبكة من العلاقات والاختلافات، هذا يجعل التعددية حالة طبيعية لا يمكن تجاوزها، بل يجب الاحتفاء بها والعيش معها بوعي دائم للهشاشة واللا تماثل.

تايلور يطرح التعددية من منطلق اجتماعي وسياسي، ويركز على ضرورة الاعتراف الرسمي والعملي بالاختلاف الثقافي والهوية، لضمان العدالة والكرامة لكل فرد وجماعة، وحماية التعددية من خطر الإقصاء أو التهميش.

في هذا الحوار، يقدم دريدا الأساس الفلسفي العميق للتعددية، بينما يقدم تايلور الإطار العملي والسياسي لإدارتها،الأول يدعونا إلى فهم أن التعددية ليست خياراً بل هي جوهر الوجود، والثاني يذكرنا بأن التعددية تحتاج إلى إدارة حكيمة وسياسات اعتراف تراعي حساسية الهويات.

لماذا هذا الحوار مهم اليوم؟

في عالم يشهد صراعات ثقافية، وهويات متنافسة، وسياسات ترفض الآخر أو تحاول فرض هوية موحدة، يصبح فهم التعددية ضرورة للحفاظ على السلام والعدالة. الكتب التي تركها دريدا وتايلور هي أكثر من مجرد نصوص أكاديمية، إنها دعوات إنسانية للحوار، للتسامح، وللعيش مع الآخر في كرامة وحرية، “الكتابة والاختلاف” تقدم لنا نموذجاً لفهم الذات والآخر، مبنياً على عدم الثبات والاستقبال الدائم للاختلاف.

و”التعددية الثقافية ” تقدم لنا نموذجاً لبناء المجتمعات، حيث يصبح الاعتراف بالهوية شرطاً للسلام والعدالة.

التعددية كنداء إنساني

التعددية ليست ببساطة واقعاً نعيشه، بل هي نداء مستمر لليقظة والاحترام والإنسانية، من دريدا نتعلم أن الاختلاف هو قلب الوجود، ومن تايلور نأخذ درس الاعتراف كطريق لبناء عالم أفضل.

بين هذين الفيلسوفين، تتشابك فلسفة الوجود مع السياسة الإنسانية، ليكون التعدد ليس عبئاً أو تهديداً، بل فرصة عظيمة لنا جميعاً.

آخر الأخبار
تفعيل إجراءات نقل الملكية العقارية بدرعا مستشفى خيري في قلب حلب.. مبادرة إنسانية تعيد الأمل لآلاف المرضى ضمن برنامج "حاضنة الأعمال" اختيار المشاريع الأولى للرواد باراك: ملتزمون بمساعي تحقيق السلام والازدهار في سوريا الشيباني يبحث مع السفير الصيني المستجدات الإقليمية والعلاقات الثنائية البدء بترميم مدارس متضررة في درعا بدء قبول طلبات الاعتراض على نتائج شهادة التعليم الأساسي وقف استيراد الفروج المجمد.. مدير الدواجن يدعو لمراقبة السوق تعزيز العلاقات التجارية مع مجلس الأعمال السوري- الأميركي وزير المالية يطمئن.. الخبير عمر الحاج لـ"الثورة": تنشيط قطاع الكهرباء يحتاج تكاليف كبيرة إعادة تأهيل ست آبار.. وإزالة تعديات على خطوط المياه بدرعا مطاعم المزة.. نكهات باهظة في مدينة تتعافى ببطء بداية تعاف ونقطة قوة تسجل للحكومة.. جمعة حجازي لـ "الثورة": تحويل المحافظات المهمشة اقتصادياً لمراكز... "أمية" ينفض الغبار بانطلاقة جديدة.. مصطفى خطاب: نراهن على الجودة والسعر معاً رغم زيادة الرواتب.. أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة موازنة العام 2026.. رؤية مختلفة عن سابقاتها التمديد الحكمي في عقود الإيجار.. الأكثر أثارة للجدل مشروع القاضي طارق برنجكجي يعيد التوازن التشريعي مشاريع تركيب وصيانة لتعزيز موثوقية الكهرباء بريف دمشق قرية اليعقوبية تحيي طقوس عيد القديسة آنا بريف إدلب قرار جديد يضع التمريض على مسار مهني صارم ويحمي حق المريض