الثورة – جاك وهبه:
في خضم الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تعيشها سوريا منذ أكثر من عقد ومع تفاقم الفقر وتآكل الدخول وتراجع القدرة الشرائية، أصبح البحث عن مصادر دخل بديلة مسألة بقاء لكثير من السوريين.
ومع تضاؤل الفرص في سوق العمل الرسمي وغياب برامج الدعم الاجتماعي الفعالة برز الاقتصاد غير الرسمي كملاذٍ اضطراري للملايين وامتد ليشمل قطاعات واسعة من النشاط الاقتصادي بدءاً من الباعة الجوالين والحرفيين وصولاً إلى ورش التصنيع والخدمات الصغيرة.
بلا حماية
هذا الاقتصاد الموازي، الذي نشأ في الظل وتوسّع خارج الأطر القانونية والمؤسساتية بات يشكّل اليوم أحد أبرز التحديات التي تواجه الدولة السورية ليس فقط بسبب الخسائر المالية التي يتسبب بها من خلال التهرب الضريبي وضياع الإيرادات بل بسبب انعكاساته الاجتماعية الخطيرة على الطبقة العاملة التي تجد نفسها بلا حماية قانونية أو ضمانات اجتماعية.في الوقت ذاته، لا يمكن التعامل مع هذه الظاهرة بوصفها مجرّد مخالفة أو تهربا بقدر ما هي نتيجة طبيعية لتراكمات طويلة من السياسات الاقتصادية المتعثّرة والبُنى الإدارية المعقدة وغياب بيئة العمل الآمنة والمحفّزة، من هنا يصبح السؤال الملحّ: كيف يمكن للدولة أن تحتوي هذا القطاع وتعيد دمجه في الإطار الرسمي دون أن تزيد من الأعباء على الفئات الأكثر هشاشة؟
الملاذ الوحيد
في هذا السياق، أكّد الخبير في الشؤون الاقتصادية الدكتور يحيى السيد عمر أن الاقتصاد غير الرسمي في سوريا ليس ظاهرة جديدة بل ترسخ خلال العقود الماضية بفعل مجموعة من العوامل البنيوية والمعقدة، وأوضح أن تعقيدات إجراءات الترخيص وارتفاع الرسوم والضرائب بالإضافة إلى البيروقراطية الإدارية دفعت أعداداً كبيرة من الأفراد وأصحاب المشاريع الصغيرة للعمل خارج النظام الرسمي.
وبيّن الدكتور السيد عمر في تصريح خاص لصحيفة الثورة أن السياسات الاقتصادية المتبعة في عهد النظام البائد والتي اتسمت بانعدام الشفافية وغياب العدالة الضريبية ساهمت في تكريس هذا الواقع خصوصاً مع انهيار البنية الإنتاجية وتراجع فرص العمل الرسمية ما جعل اقتصاد الظل الملاذ الوحيد لشريحة واسعة من الأسر السورية في ظل غياب الدعم المؤسسي الكافي.
خارج الرقابة
وفيما يتعلق بالخسائر الناجمة عن توسع هذا القطاع، نوّه الخبير بأن الدولة لا تتحمل فقط خسائر ناجمة عن التهرب الضريبي وضياع الإيرادات بل هناك أيضاً تبعات مباشرة تطال العاملين ضمن الاقتصاد غير الرسمي أبرزها الحرمان من الحقوق الأساسية مثل التأمينات الاجتماعية والرعاية الصحية، وأضاف أن الأجور في هذا القطاع غالباً ما تكون منخفضة وأن العاملين فيه يعانون انعدام الأمان الوظيفي ما يجعلهم عرضة للاستغلال ويُفاقم هشاشتهم الاقتصادية والاجتماعية.
وفي تقديراته، أشار الدكتور السيد عمر إلى أن الاقتصاد غير الرسمي في سوريا يُمثّل نسبة قد تصل إلى 60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي ما يعني أن جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي يتم خارج الرقابة الحكومية واعتبر أن هذه النسبة المرتفعة لا تحرم الدولة فقط من موارد مالية مهمة بل تُضعف قدرتها على التخطيط الاقتصادي وضمان جودة السلع والخدمات المقدمة للمواطنين.
نمط متجذر
وفي معرض حديثه عن الحلول، أكّد السيد عمر أن معالجة هذه الظاهرة لا يمكن أن تتم عبر إجراءات قسرية أو عبر فرض الاندماج الإجباري بل تتطلب رؤية اقتصادية شاملة وطويلة الأمد، وشدّد على ضرورة تبسيط إجراءات الترخيص وتخفيض الضرائب والرسوم وتقديم حوافز تشجيعية مثل التسهيلات التمويلية أو الإعفاءات المؤقتة كما دعا إلى تعزيز الثقة بين المواطن والدولة عبر تحسين الخدمات وضمان العدالة في توزيع العبء الضريبي، معتبراً أن هذه الخطوات تمثل مدخلًا واقعياً لمعالجة اقتصاد الظل تدريجيا.وأشار إلى أن الاقتصاد غير الرسمي لم يعد استثناء مؤقتاً بل أصبح نمطا متجذراً يتطلب سنوات من الإصلاحات البنيوية لمعالجته بشكل فعّال محذراً من أن استمرار تجاهل هذا الواقع قد يُضعف فرص النهوض الاقتصادي في المستقبل ويكرّس الفجوة بين الدولة والمجتمع.