الثورة – إيمان زرزور
مثّلت الصور المتداولة لوفود سياحية تجوب المدرج الروماني في بصرى الشام بمحافظة درعا حدثاً لافتاً، فهي المرة الأولى منذ عام 2011 التي تعود فيها هذه المدينة الأثرية العريقة إلى استقبال مجموعات منظمة من زوار أجانب، الحدث بدا أبعد من مجرد زيارة سياحية، إذ يحمل دلالات تاريخية وثقافية وسياسية تعكس مسار سوريا بعد أكثر من عقد من الحرب والدمار.
تعد بصرى الشام نموذجاً فريداً للتنوع الحضاري والديني الذي ميّز بلاد الشام عبر التاريخ، فمن المسرح الروماني الذي يُعد من الأفضل حفظاً في العالم، إلى القلعة والمساجد القديمة، وصولاً إلى الكنيسة المسقوفة الوحيدة عالمياً المتجاورة مع المسجد الفاطمي، تتجسد في هذه المدينة صورة مصغرة عن التعايش الذي ساد المنطقة لقرون.
عودة السياح اليوم للاطلاع رسالة بأن هذا الإرث لا يزال قادراً على استقطاب الاهتمام العالمي رغم الخراب الذي خلفته الحر، وتدل على انفتاح تدريجي على الخارطة السياحية العالمية، حيث أن استقبال وفود من أوروبا وآسيا وأميركا يعكس بداية عودة سوريا إلى دائرة الاهتمام الثقافي والسياحي بعد سنوات من العزلة.
كما يسهم في إحياء الذاكرة الحضارية عبر إبراز المعالم الأثرية أمام السياح الأجانب يذكّر العالم بأن سوريا ليست فقط ساحة حرب، بل موطن لحضارات متجذرة تشكل جزءاً من التراث الإنساني المشترك، ويعطي رسالة سياسية ضمنية بأن إعادة فتح المواقع الأثرية أمام السياحة المنظمة تحمل إشارة إلى قدرة الدولة على توفير بيئة أكثر استقراراً، ولو بشكل محدود، في مناطق تاريخية حساسة.
رغم عودة النشاط السياحي، فإن بصرى الشام ما تزال تحمل آثار الدمار، إذ دُمّر عدد من مواقعها الأثرية نتيجة القصف، مثل “سرير بنت الملك” وبعض المساجد القديمة، وهذا التناقض بين آثار الحرب وعودة السياحة يطرح تحدياً أساسياً: كيف يمكن حماية ما تبقى من إرث حضاري، وفي الوقت نفسه استثماره في إنعاش الاقتصاد المحلي؟ الوفد السياحي الذي ضم أكاديميين ومعماريين من الصين وبريطانيا والولايات المتحدة دعا إلى حماية بصرى من التوسع العمراني العشوائي، وهو تحذير يعكس مخاوف حقيقية من فقدان قيمتها التاريخية، ولعل إدراج المدينة ومدرجها على قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ 1980 يمنحها حماية معنوية، لكن الواقع الميداني يتطلب إجراءات عملية لصون هذه المواقع من الضغوط السكانية والاقتصادية.
والثابت أن عودة السياحة إلى بصرى الشام بعد 13 عاماً تمثل نقطة تقاطع بين الماضي والحاضر: ماضٍ حضاري زاخر بالإبداع المعماري، وحاضر مثقل بتبعات الحرب لكنه يسعى لإعادة وصل ما انقطع مع العالم، ونجاح هذه العودة يتوقف على قدرة سوريا على الجمع بين حماية التراث واستثماره، وعلى استعداد المجتمع الدولي لدعم الجهود في هذا المجال.
وبذلك، فإن زيارة بصرى الشام لا يمكن قراءتها كحدث عابر، بل كإشارة رمزية إلى أن الهوية الحضارية السورية قادرة على مقاومة النسيان، وأن استعادة البلاد لدورها الثقافي والإنساني ممكنة إذا ما توافرت الإرادة والإدارة الرشيدة.