الثورة – لينا شلهوب
في زمن تتشابك فيه الأزمات المعيشية مع متطلبات إعادة بناء العملية التعليمية في سوريا، يقف المعلم اليوم في قلب معادلة معقدة، فبين ضغوط الحياة اليومية، وضآلة الرواتب، وتحديات إعادة تأهيل الكوادر بعد سنوات طويلة من التراجع والاضطراب، برزت مبادرات جديدة تسعى إلى رسم ملامح مرحلة مختلفة، عنوانها تحسين الوضع المهني والمعيشي للمعلمين وخلق بيئة تعليمية محفّزة.
وفي هذا السياق، كشف نقيب المعلمين في سوريا محمد مصطفى، في تصريح إعلامي، عن إعداد خطة استراتيجية شاملة بالتعاون مع الوزارات والمؤسسات المعنية، تهدف إلى تحسين الرواتب، وتوسيع مظلة التأمين الصحي، ودعم المعلمين ذوي الدخل المحدود، في خطوة اعتبرها كثيرون بداية مهمة رغم إدراكهم لحجم التحديات.
خطة استراتيجية
بحسب ما أعلنه مصطفى، يتجاوز عدد المعلمين العاملين حالياً 270 ألفاً، مع جهود مستمرة لإعادة المفصولين في عهد النظام المخلوع، وتأهيل الكوادر لسد النقص الحاصل، موضحاً أن النقابة تتابع ملف المفصولين باهتمام، وتم بالفعل جمع بيانات واسعة حولهم، على أن تبدأ العودة التدريجية عبر قرارات إيجابية مرتقبة، مشيراً إلى العمل مع وزارة التربية والتعليم لتثبيت المتعاقدين الذين أثبتوا كفاءتهم، إلى جانب إعداد مقترحات لتعديل سلم الأجور، ورفع أجور ساعات التدريس الإضافية والمراقبة، بحيث تواكب متطلبات المعيشة الحالية.
خطوة على الطريق الصحيح
وخلال لقاءات مع عدد من المعلمين أعدتها صحيفة الثورة قالوا : أي زيادة في الرواتب أو تعديل في سلم الأجور ستُحدث فرقاً ملموساً في حياتنا اليومية، خاصة مع ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق، يقول المدرّس ربيع الحايك- معلم في المرحلة الثانوية بريف دمشق- أن راتب المعلم الحالي لا يكاد يغطي نصف الاحتياجات الأساسية للأسرة، وهذا في حال كانت الأسرة تسجّل تعداداً صغيراً، فما بالك بأسرة عدد أفرادها يصل إلى 7 أو 8 أفراد، فهنا الطامة الكبرى لأن الاحتياجات والمتطلبات تتزايد.
في المقابل، ترى المعلمة رشا مرشد- مدرسة ابتدائية- أن التركيز يجب ألا يكون على الجانب المادي فقط، فالمعلم بحاجة أيضاً إلى بيئة عمل مستقرة، وقاعات مجهّزة، ووسائل تعليمية حديثة، إذ لا يمكن أن نطلب من المعلم الإبداع فيما إذا كانت الأدوات غائبة، ولا إمكانيات متاحة.
فيما يعتبر المعلم الاختصاصي فادي خوري أن أي خطة لإصلاح التعليم تبدأ أولاً من المعلم، فهو الأساس الذي تقوم عليه العملية التعليمية، ويرى أن تحسين الظروف المعيشية ينعكس بشكل مباشر على جودة التعليم، لأن المعلم الذي ينشغل بهمومه اليومية لن يكون قادراً على أداء رسالته بالشكل الأمثل، ويضيف خوري: التثبيت للمتعاقدين خطوة جيدة لأنها تمنح الاستقرار، لكن الأهم هو الاستثمار في التدريب والتأهيل المستمر، خاصة في ظل المتغيرات المتسارعة عالمياً في أساليب التدريس.
جبر للضرر وتدارك للنقص
ومن القضايا الحساسة التي تناولها نقيب المعلمين، ملف المعلمين الذين تم فصلهم في عهد النظام البائد، فالكثير منهم ما زالوا ينتظرون قرار العودة إلى مقاعد التدريس بعد سنوات من التهميش، إحدى المدرّسات، قالت: كنت أعمل مدرّسة لغة عربية قبل فصلي تعسفياً، واليوم أعيش على أمل العودة، لأن مهنة التعليم بالنسبة لي ليست وظيفة بل رسالة، وما يجري الآن يعطينا بصيص أمل.
ويرى بعض المتابعين أن معالجة هذا الملف لا يحمل بعداً إنسانياً فقط، بل يلبي حاجة حقيقية للنظام التعليمي الذي يعاني نقصاً واضحاً في الكوادر.
ضمن الخطة المعلنة، يجري العمل على توسيع مظلة التأمين الصحي للمعلمين، وهذه خطوة يعتبرها المعلمون حاجة أساسية في ظل الارتفاع الكبير بتكاليف العلاج والدواء، إذ يقول المدرّس ياسر المهنا: أصبحنا نخصص جزءاً كبيراً من رواتبنا لتغطية تكاليف طبية، وأحياناً نعجز عن ذلك، وأي تحسين في مجال التأمين الصحي سيخفف علينا العبء كثيراً، خاصة بعد التقاعد، إذ أنه جراء التقدم بالعمر تتزايد الأمراض، وتخف المناعة ويصبح الانسان بحاجة للدعم أكثر.
صعوبات على الطريق
رغم التفاؤل النسبي، يدرك الجميع أن تطبيق هذه الخطط لن يكون سهلاً، لأن التحديات تبدأ من ضعف الموارد المالية، مروراً ببيروقراطية الإجراءات، وصولاً إلى فجوة الثقة بين الوعود والتنفيذ.
الخبيرة الاقتصادية مها حموي توضّح أن تحسين الرواتب يتطلب موارد إضافية في موازنة الدولة، وهو أمر يصطدم بواقع اقتصادي صعب، مضيفة أن الحل ربما يكون في وضع خطة تدريجية قابلة للتنفيذ، إلى جانب البحث عن مصادر تمويل بديلة عبر شراكات أو برامج دعم خاصة بقطاع التعليم.
في المحصلة، فإن أي تحسين في وضع المعلم لا ينعكس عليه وحده، بل يمتد أثره إلى الطلاب والمنظومة التعليمية ككل، فالمعلم المستقر مادياً ونفسياً يكون أكثر قدرة على الإبداع والتفاعل مع طلابه، ما ينعكس إيجاباً على جودة التعليم.
ويستطرد الاختصاصي النفسي التربوي حسام زين الدين، قائلاً: اليوم نلمس أن عدداً كبيراً من الطلاب يعانون من ضعف في التحصيل، كون المعلم يتحمل أعباء مضاعفة في بيئة غير ملاءمة، وهذا المعلم المرهق أو المحبط لن يستطيع معالجة هذه الفجوة، لأنه يحتاج لمن يعالجه.
تعيد الاعتبار
بين الوعود المعلنة، وتطلعات المعلمين، وحجم التحديات الاقتصادية، يبدو أن الطريق نحو تحسين واقع المعلم السوري ما زال طويلاً، لكنه بدأ يخطو خطوات ملموسة، ولعل الأمل الأكبر أن تتحول هذه الوعود إلى قرارات نافذة، ترفع من مكانة المعلم مادياً ومعنوياً، وتعيد الاعتبار لمهنة التعليم كركيزة أساسية لبناء المستقبل.