الرمزية السياسية لانطلاقة سانا الجديدة.. الإعلام الرسمي السوري بين استعادة الثقة وبناء هوية وطنية جامعة
أحمد نور الرسلان:
لم يكن إطلاق النسخة الجديدة من وكالة الأنباء العربية السورية “سانا” مجرد تحديث تقني أو عملية إعادة هيكلة إدارية، بل خطوة تحمل في طياتها دلالات سياسية عميقة ترتبط بالتحولات التي تشهدها سوريا بعد سقوط نظام الأسد أواخر عام 2024.
فالوكالة التي مثّلت لعقود طويلة واجهة الدعاية الرسمية، تحاول اليوم أن تعيد تقديم نفسها كمنبر وطني حديث متعدد اللغات، في لحظة تسعى فيها الدولة السورية الجديدة لترميم الثقة مع مواطنيها وإعادة بناء صورتها أمام العالم.
ارتبط اسم “سانا” في الذاكرة السورية بمرحلة النظام البائد حين تحولت من وكالة إخبارية إلى أداة لتزييف الحقائق وتبرير القمع، واليوم، جاء خطاب وزير الإعلام الدكتور حمزة المصطفى في حفل الانطلاقة الجديدة ليعترف صراحةً بهذه الحقبة، مؤكداً أن الوكالة تفتح صفحة جديدة تستعيد فيها دورها الطبيعي كمصدر إخباري وطني شفاف، وهذا الاعتراف بسلبيات الماضي يمثل بحد ذاته تحوّلاً في الخطاب الرسمي، ويؤشر إلى استعداد المؤسسة الجديدة للتمايز عن تاريخها الدعائي.
إدراج اللغة الكردية إلى جانب العربية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية والتركية، لم يكن قراراً فنياً فقط، بل رسالة سياسية واضحة، فالاعتراف باللغة الكردية ضمن الإعلام الرسمي يعكس توجهاً جديداً نحو دمج المكوّن الكردي في الهوية الوطنية السورية، بعد عقود من التهميش، كما أن هذا الخيار يفتح نافذة للتواصل مع شرائح أوسع داخل سوريا وخارجها، ويقدّم صورة عن سوريا الجديدة كدولة تعترف بتنوعها وتتباهى به، بدلاً من أن تخفيه أو تقمعه.
ترتكز الرمزية السياسية لانطلاقة سانا على هدف أعمق يتمثل في إعادة بناء الثقة بين الدولة والجمهور، فتصريحات المدير العام زياد المحاميد عن الانتقال من “صحفي ينتظر التعليمات” إلى “صحفي ميداني يتحرى المعلومة” ليست مجرد تقنية تحريرية، بل تعبير عن محاولة لكسر صورة الإعلام الحكومي التقليدي القائم على الإملاء.
هذه المقاربة تهدف إلى تقديم سانا كمنبر يضع الإنسان في صلب الخبر، وينقل الواقع كما هو، وهو ما يشكّل اختباراً حقيقياً لمصداقية المؤسسة في المرحلة المقبلة، كما تحمل هذه الانطلاقة أيضاً رسائل موجهة للخارج، فإعلان خطط افتتاح مكاتب لسانا في أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا، وإنتاج محتوى متعدد اللغات، يعكس رغبة سوريا الجديدة في صياغة خطاب دولي بديل يعرض روايتها الخاصة للأحداث. كما أن إدماج الذكاء الاصطناعي وتحديث أدوات العمل الإعلامي يضع الوكالة في موقع المنافسة مع وكالات إقليمية، ويعزز حضورها في فضاء إعلامي عالمي لطالما ظل محجوباً عنها بفعل العزلة السابقة.
وأكد وزير الإعلام أن إعادة إطلاق سانا يجعلها “قاطرة الإعلام الرسمي” في سوريا، أي المؤسسة التي يُعوّل عليها لقيادة تجديد الخطاب الإعلامي وصياغة لغة مهنية أكثر حيوية وموضوعية، وهذا التصور يعكس رهانات الدولة السورية على الإعلام الرسمي كجزء من مشروع إعادة بناء الشرعية السياسية، ليس فقط عبر ما يقوله، بل أيضاً عبر ما يتجنّب العودة إليه: الدعاية الفجة والتعتيم. تتجاوز انطلاقة سانا الجديدة بعدها الإعلامي إلى بعد سياسي رمزي عميق، فهي إعلان عن نهاية مرحلة ارتبطت بالدعاية السلطوية، وبداية أخرى تسعى لإعادة تعريف علاقة الدولة بمواطنيها وبالعالم، فاختيار اللغات، الاعتراف بالماضي، والتأكيد على المصداقية والشفافية، كلها عناصر تجعل من هذه الخطوة محطة أساسية في مسار سوريا الجديدة نحو بناء هوية وطنية جامعة وإعلام رسمي حديث يُفترض أن يكون صوت الحقيقة لا بوق السلطة.