الثورة – حسين روماني:
امتلك الفيلم القصير “باتجاه القبلة” “Facing Mecca” القدرة على ملامسة الوجدان السوري، إذ نجح في تحويل مأساة فردية إلى صورة جامعة لمعاناة شعب بأكمله، هذا العمل الذي عُرض في قاعة الدراما بدار أوبرا دمشق ضمن تظاهرة أفلام الثورة السورية، لم يُستقبل كفيلم فني وحسب، بل كوثيقة حيّة تعيد فتح جراح لم تلتئم.

قصة الفيلم تبدأ من قرار أسرة سورية مغادرة الوطن تحت ضغط الحرب والخوف والمرض، ففريد وزوجته المريضة بالسرطان لم يجدا في سوريا ملاذاً آمناً ولا علاجاً متاحاً، فكان الرحيل إلى سويسرا خياراً وحيداً للهروب من جحيم القصف وانعدام الرعاية، لكن الموت سبق الحياة، لتتوفى الزوجة في المنفى، ويجد فريد نفسه أمام صراع جديد.. كيف يدفنها باتجاه القبلة وسط قوانين لا تعترف بخصوصياته الدينية؟.

في شخصية “فريد”، يُقدّم الفنان جهاد عبده واحداً من أكثر أدواره صدقاً، ملامحه المنكسرة وصوته المتردد وصمته الثقيل، كلها عناصر جعلت الشخصية مرآة لوجع اللاجئ السوري.. عبده لا يكتفي بتأدية الدور، بل يضخ فيه تجربته الشخصية كمنفيّ، ليغدو حضوره على الشاشة بمثابة شهادة حيّة عن الثورة السورية من زاوية الفرد المقهور الباحث عن كرامة.
الأطفال الذين يطلّون في الفيلم يعمّقون هذا البعد الإنساني، عيونهم المتسائلة وصمتهم الممتد يختصران المأساة، فهم الجيل الذي ورث الألم من دون أن يفهم أسبابه، ويحمل ذاكرة فقدان لم يختَرها.لا يتحدث الفيلم عن المعارك ولا عن السياسة، لكنه يقدّم الثورة بأبسط صورها: الحق في الكرامة، قبر الزوجة، الذي يريد فريد أن يوجّهه نحو مكة، يتحول إلى رمز لكل ما نادى به السوريون أن يعيشوا ويغادروا ويموتوا بكرامة، مواجهة البيروقراطية هناك تعكس المواجهة الأوسع التي خاضتها الثورة ضد أنظمة لا تعترف بالإنسان بقدر ما تتمسك بالقوانين الجامدة.
أهمية الفيلم لم تقف عند حدّ التظاهرة، فقد فاز عمل المخرج يان إيريك ماك بجائزة الأوسكار المخصصة للطلاب عام 2017، وحظي بعروض على منصات كبرى، هذه النجاحات تكشف قدرة الفيلم على الانتقال من قصة محلية إلى خطاب إنساني عالمي، ويجد كل مشاهد نفسه في مواجهة سؤال الكرامة.
حين أنيرت الأضواء في قاعة الدراما بعد العرض، خيّم صمت ثقيل على الحضور، كثيرون رأوا في الفيلم وجوههم، أحبتهم، رحلاتهم القسرية نحو المجهول، لم يكن مجرد عرض سينمائي، بل جلسة مواجهة مع الذات.”باتجاه القبلة” ليس فيلماً قصيراً فقط، بل مرثية بصرية لثورة تبحث عن العدالة، من خلال أداء جهاد عبده القوي، وحضور الأطفال الصامت، وسردية اللجوء والموت، يثبت الفيلم أن الثورة السورية باقية في التفاصيل الصغير عبر نظرة عين، ورقة رسمية تعيق دفناً، وفي قبر يصرّ صاحبه أن يتجه نحو القبلة.