الثورة – عبير علي:
في خطوة تعكس التفاعل بين الفن والبيئة، أقيمت فعالية ثقافية بيئية منوعة لنشر الوعي البيئي بعنوان “الفن والطبيعة”، في ثقافي أبو رمانة، بالتعاون بين جمعية بيت الخط العربي والفنون ومؤسسة مناخنا، ومؤسسة المئة التنموية.. تداخلت فيها ألوان الفن مع نبض البيئة، شارك فيها الفنانة التشكيلية ريم قبطان، والزميلان محمد سمير طحان، وسامر الشغري، وألقيا الضوء على العلاقة العميقة بين الفن التشكيلي والطبيعة، والسينما والمسرح البيئي، والأغنية العربية ودورها في إبراز جمال الطبيعة والبيئة التي ننتمي إليها.
وفي مستهل الندوة، دعا أمين سر مجلس أمناء مؤسسة “مناخنا”، محمد سمير طحان، إلى توظيف الفنون السينمائية والتلفزيونية والمسرحية كأدوات فاعلة لنشر الوعي البيئي، مبيناً أن الدور التوعوي للفنون يأتي من خلال رسائل غير مباشرة تخترق العقول والقلوب، وتُرسّخ السلوك الإيجابي من دون وعظ أو إملاء.
ويعتبر طحان أن هذا الاتجاه يمثل استثماراً في بناء الضمير والإنسان، الذي يسبق أي استثمار في الحجر، مستعرضاً العديد من الأمثلة العالمية والعربية التي نجحت في توظيف الفن فيما تعالج القضايا البيئية، من بين هذه الأمثلة، فيلم “Wall-E” الذي قدم نقداً لاستهلاكية البشر، ومسلسل “العراب” السوري، الذي أظهر مشهد الصراع على نبع الماء كتحذير من حروب المستقبل على الموارد، وفيلم “الآن وقتاً متأخراً” المصري، ومسرحية “غبار” التونسية كأعمال فنية تناولت هذا الموضوع المهم.
وكشف عن الواقع السوري المأساوي، إذ أشار إلى أن “أكثر من 60 بالمئة من الغابات السورية تضررت، ونحو 65 بالمئة من الأراضي الزراعية تواجه التصحر، فيما تتراجع الموارد المائية الجوفية إلى مستويات خطيرة، مشدداً على ضرورة جعل قضية البيئة في صلب أولوياتنا خلال مرحلة إعادة الإعمار.
واختتم مداخلته بدعوة للمبدعين السوريين.. لا نطلب من الفن أن يكون بياناً سياسياً، بل أن يكون ضميراً حياً يذكرنا أن الماء نعمة ثمينة، وأن الهواء النقي ليس ملكاً محتوماً، نريد فناً يقول: ما أُتلف بالحرب، لا يُدمر بالإهمال في السلام.

مرآة للبيئة والطبيعة
من جهته، أكد الباحث الموسيقي والصحفي سامر الشغري، أن الأغنية تشكّل مرآة حساسة للبيئة والطبيعة، مشيراً إلى أن هذه الفنون لا تقتصر على المتعة السمعية، بل تحمل رسالة وجدانية وإنسانية عميقة، مبيناً أنه عندما يحتفي الفن بجمال الجبال والأنهار والطيور، فإنه يرسخ علاقة الإنسان بمحيطه ويذكّره بواجب الحفاظ عليه.
وأضاف: إن إدماج البيئة في الأغنية يفتح المجال لوعي جماعي يوازن بين الحضارة والتنوع الطبيعي، وقال: من هنا تأتي أهمية الاحتفاء بالفن والطبيعة معاً، لأن الفن يمنح الطبيعة صوتاً، والطبيعة تمنح الفن أصالته وإلهامه، فالاحتفال بهما يعني حماية التراث الإنساني والبيئي وبناء وعي جمالي يربط الإنسان بجذوره وبالأرض التي تمنحه الحياة.
ولفت الشغري إلى ارتباط الأغنية العربية منذ بداياتها بالطبيعة ارتباطاً وثيقاً، إذ تغنّى الشعراء والمطربون بالصحراء، والواحات، والأنهار، والبحار، والنسيم، والطيور، مؤكداً أن الطبيعة لم تكن مجرد خلفية جمالية، بل كانت مصدر إلهام ووسيلة للتعبير عن الحب والشوق والحنين.
وذكر أمثلة لأغانٍ خالدة تُظهر هذا الارتباط، مثل “ما احلاها عيشة الفلاح” لمحمد عبد الوهاب، و”طلعت يا ما أحلا نورها” للسيد درويش، و”وشفت الحلوة” التي طورها مصطفى هلال، والتي تنتقل بين مشاهد الجبل وبرك المياه، كما أشاد بتجربة الأخوين رحباني ووديع الصافي التي جسدت هذا التناغم بين الفن والطبيعة.
وأشار إلى أنه في الأغنية التراثية نجد صوراً متكررة للورد والليل والقمر، ومع ذلك فقد غابت الطبيعة بعض الشيء في الأغاني الحديثة لتنتقل إلى هموم الإنسان وقضايا البيئة، ورغم هذا، يبقى جمال الطبيعة جزءاً من الهوية الفنية العربية، ولا تزال الأغنية جسراً يربط الإنسان بأرضه ومحيطه، ما يجعل الطبيعة حية في الذاكرة الجماعية.

علاقة تاريخية غنية
تحدثت الفنانة التشكيلية ريم قبطان عن العلاقة العميقة بين الفن التشكيلي والطبيعة، موضحةً أنها واحدة من أقدم العلاقات في تاريخ الفنون، وناقشت تطور هذه العلاقة عبر العصور، بدءاً من القديمة حين كانت الطبيعة تُظهر بشكل رمزي في الحضارات مثل مصر واليونان، العصور الوسطى ظهرت كخلفية ثانوية في اللوحات الدينية، مع تركيز على الإنسان، وفي عصر النهضة (15-16) بدأ الفنانان ليوناردو دافنشي، وألبريخت، دوراً في عرض الطبيعة كموضوع مستقل، أما في القرن 17 أصبحت الطبيعة موضوعاً رئيسياً في العصر الذهبي للرسم الهولندي، كما في أعمال جاكوب فان رويزدال، وكلود لورين.. وفي القرن 18- 19 خلال فترة الرومانسية، اعتُبرت مصدراً للانفعال الروحي، كما في لوحات كاسبار ديفيد فريدريش، وفي الانطباعية (القرن 19) استخدم فنانون مثل مونيه، ورينوار الطبيعة كمختبر لفهم الضوء، فيما عكس فان غوخ حالته النفسية بألوانه، وأخيراً في القرن 20 وما بعده دخلت الطبيعة في تجارب حداثية وتجريدية، واستلهم فنانون مثل كلي وكاندينسكي منها، فيما عُرضت في فن بيت (Land Art) كخام.

تأثير الطبيعة على الفنانين
استعرضت قبطان تأثير الطبيعة على الفنانين من خلال عدة جوانب، الإلهام الروحي إذ اعتبرت الطبيعة رمزاً للخلود والقوة في فترة الرومانسية، الدراسة العلمية، تحليل الضوء والمنظور في النهضة والانطباعية، والتجريب النفسي وجسدت الطبيعة مشاعر الفنانين، كما يتجلى في أعمال فان غوخ.
التجريد استلهم كاندينسكي وبول كلي أشكالاً من الطبيعة، التفاعل المباشر: في فن بيتي “Land Art”، تعتبر الطبيعة جزءاً من العمل الفني.
ولفتت قبطان إلى أن الفن العربي والسوري يمتلك تاريخاً غنياً مع الطبيعة، مع بعض الفنانين البارزين، لؤي كيالي رسم مناظر طبيعية شاعرية، إلياس الزيات مزج بين التراث والرمزية، عبد القادر أرناؤوط أعماله عكست البيئة السورية، فاتح المدرس استلهم من الطبيعة، محمود جلال رائد في الحركة التشكيلية بأسلوب كلاسيكي، إلياس عياش وثق جمال الطبيعة السورية، أكرم شكري من أوائل المدربين في أوروبا وله أعمال متنوعة.
وختمت قبطان بالإشارة إلى أن المناظر الطبيعية في الفن السوري غالباً ما ترتبط بالبيئة اليومية، مما يجعلها مدمجة مع الإنسان والذاكرة، وليس موضوعاً مستقلاً كما هو الحال في أوروبا.

ولتعزيز التجربة الثقافية ضمن الندوة، جرت قراءات شعرية وأدبية لأدباء وشعراء من مؤسسة المئة التنموية، ما أضفى عمقاً أدبياً خاصاً على الحدث، ورافق الفعالية معرض فني مختص بالطبيعة، شارك فيه أعضاء جمعية بيت الخط العربي والفنون، ليكون بمثابة منصة لعرض إبداعاتهم الفنية التي تسلط الضوء على جمال البيئة وتنوعها.