الثورة – فؤاد الوادي:
” سوريا تعود إلى المجتمع الدولي”، بهذه الكلمات اختصر الرئيس أحمد الشرع عنوان المرحلة التي تشهد تحولات محلية وإقليمية ودولية متسارعة، والتي تخوض فيها الدولة السورية تحديات على كل المستويات وفي كل المجالات، لاسيما تفكيك التركة الثقيلة التي خلفها النظام المخلوع على الواقع السوري المنهك.
وبقدر ما تحمل هذه الكلمات دلالات وأبعاداً في إعادة رسم وتشكيل ملامح الحاضر والمستقبل السوري، بقدر ما تعكس بداية مسار جديد للعلاقات السورية الأميركية من جهة، وللعلاقات السورية الغربية من جهة أخرى.
مسار جديد
الدكتور عامر النمر الاستشاري في المجلس الاجتماعي والاقتصادي في الأمم المتحدة، أكد في حديث لـ” الثورة”، أن زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة تحمل أبعاداً تتجاوز البروتوكول الدبلوماسي التقليدي، إذ تعكس بداية مسار جديد في العلاقات السورية – الأمريكية بعد سنوات من القطيعة، وتفتح نافذة حقيقية للتفاهم المباشر حول ملفات العقوبات، والأمن الإقليمي، ومستقبل الدور السوري في المجتمع الدولي، مضيفاً أن مجرد استقبال الشرع في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة يعدّ بحد ذاته إشارة إلى أن العزلة السابقة بدأت تنكسر.
وفيما يتعلق بأهمية الزيارة على المستوى الدولي، فقد أشار النمر إلى أن اللقاءات التي أجراها الشرع مع شخصيات من السلطتين التنفيذية والتشريعية الأمريكية، إلى جانب اجتماعه مع قادة أوروبيين مثل رئيس وزراء النرويج ورئيس التشيك، تكشف عن رغبة متبادلة لإعادة صياغة موقع سوريا في النظام العالمي.
هذه اللقاءات تمهّد لربط سوريا مجدداً بالاقتصاد العالمي ولإطلاق شراكات جديدة مع أوروبا في ملفات الطاقة والإعمار واللاجئين. أما على الصعيد السوري الداخلي، فقال إن أي تحرك نحو تخفيف العقوبات أو إدماج سوريا في المؤسسات الدولية سينعكس مباشرة على الواقع المعيشي للمواطنين، كما من المتوقع أن يسهم ذلك في تحسين توافر المواد الأساسية، وفتح مجالات للاستثمار، وتخفيف الضغوط الاقتصادية. لكن هذه الفوائد تبقى مرهونة بقدرة الحكومة على استثمار الانفتاح الخارجي في إصلاحات داخلية جادة، تعزز الشفافية وتوسّع المشاركة السياسية.
محطات تاريخية
يذكر أن العلاقات السورية – الأميركية قد شهدت محطات تاريخية، تميزت بالتعاون تارة، وبالتباعد والصراع تارة أخرى، إذ دعمت الولايات المتحدة السوريين قبيل الاستقلال في العام 1946، وتعاونت مع الدولة الوليدة في الفترة التي تلت استقلالها من الاحتلال الفرنسي والبريطاني، وقد شهدت فترات أخرى تعارضاً وصراعات أدت إلى فرض عقوبات اقتصادية أثرت بشكل واضح على البلاد وعطلت عجلة اقتصادها سنوات.
وتعود جذور العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة إلى ما قبل تأسيس الدولة السورية الحديثة، حين أقامت أميركا تمثيلاً دبلوماسياً في مدينة دمشق إبان فترة منذ مطلع القرن الماضي. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، برز الدور الأميركي في مرحلة إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة. ففي 5 أكتوبر/تشرين الأول 1918، أعلن الملك فيصل الأول استقلال سوريا، رغم اعتراض القوتين الاستعماريتين الرئيسيتين آنذاك فرنسا وبريطانيا. وسعى العرب إلى الاستفادة من دعم الرئيس الأميركي حينئذ وودرو ويلسون، مستندين إلى مبادئه المعلنة حول حق الشعوب في تقرير مصيرها وتكريس النماذج الديمقراطية، فبعث إليه الملك فيصل رسالة مباشرة، تلقى على إثرها رداً شخصياً أعرب فيه الرئيس الأميركي عن اهتمامه بالقضية العربية. لكن تطورات الأوضاع الدولية، وتدهور صحة ويلسون ووفاته لاحقاً، حالت دون تحقيق الدعم الأميركي الكامل لاستقلال سوريا، التي خضعت في النهاية للانتداب الفرنسي بموجب ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى.
وفي الحرب العالمية الثانية، انحاز العديد من القادة السوريين، ومنهم الرئيس شكري القوتلي، إلى جانب دول الحلفاء، إذ أعلنت سوريا ولبنان عام 1945 الحرب على دول المحور، مما أتاح لهما حضور مؤتمر سان فرانسيسكو والمشاركة في تأسيس منظمة الأمم المتحدة. كما دعمت الولايات المتحدة في تلك المرحلة مطالب السوريين بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي والبريطاني، ووقف الرئيس الأميركي آنذاك هاري ترومان بوضوح ضد المساعي الفرنسية لاستمرار الانتداب على سوريا، مما أسهم في استقلالها الكامل عام 1946، والمضي قدماً في بناء علاقاتها الدولية، بعدما أقامت علاقات دبلوماسية رسمية مع الولايات المتحدة قبل ذلك عبر تعيين أول مفوض سوري في العاصمة واشنطن في 30 يناير/كانون الثاني 1945.
وكانت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس ترومان، تعتبر سوريا نقطة رئيسية في استراتيجيتها الإقليمية، إذ اعتبرتها “قلب الشرق الأوسط” لما تتمتع به من أهمية جيوسياسية، لكن هذه المرحلة شهدت تصاعداً في التوتر بين البلدين، خصوصاً مع تصاعد الحرب الباردة التي امتدت إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث تصارع النفوذ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وكانت سوريا مسرحا لهذا الصراع.
وفي يناير/كانون الثاني 1957، أعلن الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور مشروعاً عسكرياً لمواجهة التوسع السوفييتي في المنطقة، مؤكداً أن الولايات المتحدة يجب أن تتدخل بذريعة ضمان استقلال الدول النامية ووقف المد الشيوعي، وجاءت استراتيجية واشنطن حيال سوريا في تلك المرحلة بهدف احتواء النفوذ السوفييتي عبر دعم حلفاء إقليميين، خصوصا مصر، التي تلقت بدورها مساعدات أميركية.
وبعد قيام الوحدة السورية المصرية في فبراير/شباط 1958، قدمت الولايات المتحدة مساعدات إلى سوريا بلغت 20 مليون دولار، إضافة إلى 20 مليون دولار أخرى على شكل مساعدات عسكرية، وبعد حرب 1967 شهدت العلاقات الأميركية السورية فتوراً ملحوظاً، وزادت حدة التوتر وتطورت إلى ما يشبه القطيعة مع انقلاب حافظ الأسد عام 1970، رغم زيارة مفاجئة للرئيس ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر إلى دمشق في 15 يونيو/حزيران 1974، في محاولة لإحياء العلاقات بعد قطيعة دامت حوالي 7 سنوات.
دعم الثورة السورية
شكل اندلاع الثورة السورية في منتصف مارس/آذار 2011 نقطة تحول حاسمة في تاريخ سوريا والعلاقات الدولية معها.وأدى الإجرام والقمع الذي مارسه نظام الأسد ضد المتظاهرين السلميين إلى استنفار الولايات المتحدة وأوروبا، ودفعهما إلى فرض عقوبات واسعة وخانقة على سوريا، شملت حظر التعامل مع البنك المركزي السوري، وفرض قيود صارمة على صادرات النفط والمنتجات السورية.
وشهدت العلاقات الأميركية السورية تطورات لافتة بعد سقوط نظام الأسد، إذ وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 30 يونيو/حزيران 2025 أمراَ تنفيذياً ينهي البرنامج الأميركي للعقوبات على سوريا، في خطوة فاجأت الكثيرين، حتى من دائرته المقربة.
وتمثل هذه الخطوة تحولاً جذريا في السياسة الأميركية تجاه سوريا، وقد فتحت الباب أمام استثمارات إقليمية ودولية في عملية إعادة الإعمار، خاصة من تركيا والدول الخليجية.