الثورة – مريم إبراهيم:
في ظل تطورات متسارعة نشهدها تباعاً، تبرز الحاجة الماسة لتعزيز مفهوم التأمين والثقافة التأمينية في المجتمع، بالتزامن مع السعي لتوفير بيئات العمل الآمنة، فغياب هذه الثقافة أو عدم حضورها وتفعيلها بالشكل المطلوب، يجعل مشكلات العمل والعمال في مختلف مواقع العمل سواء الحكومي أم الخاص في تفاقم وازدياد، وينتج مشكلات أكبر على صعيد تأمين العامل وصحته وسلامته المهنية، خاصة في بيئات العمل التي تتصف بالأعمال الشاقة والخطيرة، والدليل كثرة حوادث العمل والإصابات التي تحدث في مختلف بيئات العمل.
فنحن مازلنا بحاجة ماسة إلى تنمية الثقافة التأمينية في المجتمع، حتى مع الجهود المحدودة التي تبذلها الجهات المعنية بهذا الخصوص، فتنمية الثقافة التأمينية مسؤولية وتشاركية بين الجهات الحكومية والخاصة وباقي الجهات المعنية الأخرى.
خطة توعوية
المدير العام للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية حسن خطيب بين في حديثه لـ”الثورة” أن المؤسسة أطلقت خطة توعوية شاملة تهدف إلى تعزيز الثقافة التأمينية لدى العاملين وأصحاب العمل في القطاعين العام والخاص، وتأكيد الالتزام بقانون التأمينات الاجتماعية رقم 92 لعام 1959 وتعديلاته، وذلك ضمن سلسلة من المبادرات النوعية التي تنفذها المؤسسة بالتعاون مع الجهات المعنية.
ولفت إلى أن الخطة تشمل دورات تعريفية بالقانون، وجلسات حوار ثلاثية تجمع المؤسسة بمنظمات أصحاب العمل والاتحاد العام لنقابات العمال، بإشراف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، بهدف تطوير بيئة العمل وتعزيز التشاركية في تطبيق التشريعات التأمينية، وكذلك تنفيذ زيارات ميدانية وإرشاد مباشر لدوائر التفتيش والإرشاد التأميني، إلى جانب دوائر الصحة والسلامة المهنية، تٌنفذ عبر زيارات ميدانية لأماكن العمل لتوضيح مزايا الاشتراك في مؤسسة التأمينات، وانعكاسه على استقرار العامل ورفع الإنتاجية، وهذه الجولات تسهم في تعزيز السلم الاجتماعي والنمو الاقتصادي.
وفي خطوة تُعد الأولى من نوعها، أصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التعميم رقم 227 بتاريخ 3 أيلول 2025، لاعتماد خطة تفتيش توعوية لمدة ثلاثة أشهر، بمشاركة مفتشي العمل والتأمينات والاتحاد العام لنقابات العمال وممثلين عن أصحاب العمل، بهدف الوقوف على المخالفات وتقديم الإرشاد اللازم، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بتطبيق القانون تفادياً للعقوبات.
ونوه خطيب بأن عدد المتقاعدين والمستحقين عنهم لدى المؤسسة يبلغ نحو 950 ألفاً، فيما بلغ عدد العمال المشترك عنهم في القطاع العام نحو مليون مشترك، وفي القطاع الخاص والتعاوني والمشترك أكثر من 800 ألف مشترك.
ركيزة أساسية
الخبير الحقوقي علي إسماعيل أوضح لـ”الثورة” أن قانون التأمينات الاجتماعية في سوريا (القانون رقم /92/ لعام 1959 وتعديلاته اللاحقة بالقانون رقم /78/ لعام 2001 والقانون رقم /28/ لعام 2014) يشكل الركيزة الأساسية لنظام الحماية الاجتماعية، وقد جاء استجابةً لحاجة موضوعية إلى حماية العمال من مخاطر الشيخوخة والعجز والوفاة (المواد: 57-72)، وضمان التعويض عن إصابات العمل والأمراض المهنية (المواد: 28-36)، وتوفير مظلة تأمينية تحقق التوازن بين مصالح العمال وأصحاب العمل والدولة.
ولفت إلى أنه رغم الإيجابيات المهمة التي حملها القانون، فإن التطبيق كشف عن ثغرات بنيوية ومالية وتنظيمية تستدعي مراجعة عميقة، فمن ناحية إيجابيات القانون هناك شمولية التغطية، إذ نصّت المادة 1 على تعريف المؤمَّن عليه بصورة واسعة تشمل العمال في القطاعين العام والخاص، وهذا يوفّر أساساً قانونياً لإدماج شريحة كبيرة من القوة العاملة، وتنوع فروع التأمينات، فالقانون أنشأ صناديق متعددة للشيخوخة والعجز والوفاة وإصابات العمل وغيرها، وهذا التنوع يقترب من معايير منظمة العمل الدولية، وهناك آليات احتساب المعاشات والحقوق، التعديلات عام 2001 (القانون 78) سمحت بضم مدد الخدمة السابقة (المادة 121) ما يضمن استمرارية الحقوق للعمال المتنقلين بين الوظائف.
وفيما يخص التأطير القانوني للعقوبات، بين الخبير إسماعيل أن المواد المتعلقة بالتفتيش والعقوبات حدّدت مسؤوليات صاحب العمل وواجباته، ما يضع أساساً للحد من التهرب، كما أن إدخال التعديلات التحديثية القانون /28/ لعام 2014 أعاد صياغة بعض المواد لتبسيط الإجراءات وربطها بالتطورات الإدارية.
ولجهة سلبيات القانون هناك ضعف التغطية العملية رغم شمولية النصوص، فالواقع يُظهر أن نسبة كبيرة من العمال، خاصة في القطاع الخاص غير المنظم تبقى خارج المظلة، وهناك ضعف آليات التفتيش يحد من تطبيق مواد الإلزام المواد 12و14 الخاصة بواجبات صاحب العمل.
وكذلك الأعباء المالية الثقيلة على أصحاب العمل ونسبة الاشتراكات مرتفعة نسبياً مقارنة بالقدرة التشغيلية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وكذلك تعقيد الإجراءات الإدارية فرغم تعديل 2014، ما زالت عمليات التسجيل والسداد تعتمد على أوراق ومعاملات بطيئة، وهو ما يتناقض مع روح المادة 116 التي تسعى إلى تنظيم إجراءات الاشتراك بوضوح، إضافة إلى غياب الحوافز المباشرة، فالقانون ركّز على العقوبات والالتزامات، لكنه لم ينص على حوافز مالية قوية لأصحاب العمل أو العمال لتشجيع التسجيل، ويوجد قصور في العدالة، فالأزمة الاقتصادية والتضخم أضعفا القوة الشرائية للمعاشات كانخفاض القيمة الحقيقية لحقوق منصوص عليها في المواد 66- 72.
سيناريوهات تحفيزية
ولفت إلى مقترحات تعديل تشريعي، كإضافة مادة جديدة لحوافز التسجيل، كأن يُمنح أصحاب العمل الذين يسجلون كامل عمالهم للمرة الأولى تخفيضاً بنسبة 40 بالمئة من حصة الاشتراكات لمدة 12 شهراً، ويُعفى العاملون الجدد من حسم 2بالمئة من حصتهم خلال المدة ذاتها، وكذلك تعديل المادة 57 وما بعدها الخاصة بالاشتراكات وجعل النسب متدرجة وفق حجم المنشأة صغيرة ومتوسطة وكبيرة بدلاً من نسبة ثابتة، وإضافة مادة حول الرقمنة عبر نص يلزم المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بإنشاء منصة إلكترونية موحدة للتسجيل والسداد، استناداً إلى توجهات الحكومة في التحول الرقمي، وتعديل المادة 121 المتعلقة بضم الخدمة السابقة، وإدخال إمكانية شراء مدد تأمينية اختيارية عبر دفعات شهرية صغيرة، ما يشجّع العمال غير النظاميين على الاندماج.
وأشار الخبير إسماعيل إلى سيناريوهات تحفيزية مقترحة كسيناريو الحزمة المرحلية، وتخفيض مؤقت في حصة صاحب العمل من 14 بالمئة إلى 8 بالمئة عند تسجيل جميع العمال، وسيناريو التسجيل الرقمي مثل اعتماد منصة إلكترونية موحدة للتسجيل الفوري، وسيناريو الحوافز للعامل كمنح بطاقة صحية خدمات تمويل صغيرة للعمال المسجلين والغاية خلق ضغط إيجابي من العمال على أصحاب العمل للتسجيل.
ولفت إلى أن القانون إيجابي من حيث البنية والشمول، لكنه يعاني من فجوة بين النص والتطبيق، فالمشكلات الأساسية تكمن في غياب الحوافز، ارتفاع الاشتراكات، وضعف آليات الرقابة، والإصلاح مطلوب عبر تعديل المواد المتعلقة بالاشتراكات والإجراءات، وإدخال مواد جديدة للتحفيز والرقمنة.
وأكد أن قانون التأمينات الاجتماعية في سوريا شكّل خطوة مهمة في بناء دولة الرعاية، لكنه يحتاج إلى إعادة صياغة إصلاحية تتلاءم مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، كما أن إدماج الحوافز المباشرة، وتبسيط الإجراءات عبر الرقمنة، وربط الاشتراكات بحجم المنشآت، سيضمن توسيع التغطية، ويحافظ على الاستدامة ويعزز الثقة بين الدولة وأطراف الإنتاج.