الثورة – تحقيق لينا إسماعيل:
إنها قصة تحدٍ يومي، تُكتَبُ فصولها بالمعاناة والفقد، إذ يصبح مجرد العثور على جرعة من الدواء “بصيص نور” في ظلام قاسٍ، وتتحول معها حياة مرضى التصلب اللويحي وذويهم إلى رحلة شاقة في البحث عن الأمل، أو بالأحرى عن العلاج المفقود.
مناشدات ونداء استغاثة
في زمن تتطور فيه العلوم بشكل عام، والطب بشكل خاص، وتزداد فيه صناعة الأدوية في العالم، نجد أن مرضى التصلب اللويحي في بلدنا يصارعون آلاماً مضنية بسبب غياب الأدوية الضرورية للسيطرة على هذا المرض المناعي الذاتي الذي ينهش الجهاز العصبي.
وفي الوقت الذي تسعى فيه دول أخرى إلى إبطاء تقدم المرض، يجد مرضى التصلب اللويحي في بلدنا أنفسهم في مواجهة واقع مؤلم، يختفي فيه الدواء من المستشفيات الحكومية التي كانت معنية بتأمينه بشكل دوري ومجاني، لكنها توقفت عن هذا الدعم منذ عدة أشهر، لتترك أعراض المرض تتكشف بحرية لدى مرضى التصلب اللويحي، مما يحوّل حياتهم اليومية إلى سلسلة من التحديات الجسدية والنفسية القاسية.
هذا الغياب للأدوية ليس مجرد نقص في العلاج، بل سلب لقدرتهم على إدارة المرض، وتركهم عرضة لتدهورٍ قد يكون بلا رجعة، في بيئةٍ تفتقر إلى أبسط مقومات الدعم والرعاية.
أكثر من 1000 مريض تصلب لويحي في محافظة حلب وحدها يواجهون كابوساً مضاعفاً، إذ يصبح المرض، الذي يهاجم الجهاز العصبي ويُضعف الألياف العصبية عبئاً أشدّ قسوة بسبب غياب الأدوية الأساسية التي تساعد على تأخير تطور المرض وتقليل نوباته، فيتحول روتينهم اليومي إلى معركة ضد أعراض المرض المؤلمة، مثل التعب وفقدان الحركة والتحكم، ويُجبرهم على مواجهة مستقبلٍ غامض لا تلوح فيه بارقة أمل حقيقية، مما يتركهم في دوامة من الألم والقلق والخوف من المستقبل.
شكاوى عديدة وصلتنا تناشد وزارة الصحة عبر منبر صحيفة الثورة إيجاد حلول إسعافية لقضية فقدان الأدوية، ليس في حلب وحدها، وإنما في كل المحافظات السورية، وإن كان لا يزال متوفراً بعض من الأدوية في مستشفى المجتهد بدمشق، إلا أنها تلبي علاج بعض من حالات التصلب اللويحي فقط، وهي محصورة ضمن شروط قاسية لمنح الدواء.
أدوية مهربة بأسعار خيالية
المريض( أ. الدروبي) أوضح أن أدوية التصلب اللويحي تباع بالسوق السوداء بمبالغ باهظة تصل إلى 400 دولار للإبرة الواحدة، وذلك بحجة أنها مهربة، فيما غابت عن المستشفيات الحكومية التي كانت مسؤولة عن تأمينها مجاناً، وعندما نراجع إدارات المستشفيات يكون الرد أن المسألة متعلقة بوزارة الصحة، ولم يصلنا منها أدوية التصلب اللويحي منذ عدة أشهر.
فمن أين نأتي بثمن الأدوية بالملايين! ونحن نعجز بالأصل عن تأمين متطلباتنا المعيشية في ظل الظروف الصعبة، وانعكاسات المرض على أجسامنا التي تعاني من الضعف المستمر.
وتحدثت المريضة (س. كلزية) عن معاناتها من تأخر أخذها جرعات الدواء الشهرية، (ليرو) عيار 125 ملغ، التي كان يؤمنها لها مستشفى الحميات مجاناً، لكن اليوم لم يعد متوفراً إلا عن طريق شركة (ت) الخاصة، لكنها لا تستطيع شراء الدواء لسعره الباهظ.
وأضافت: كنت قد سجلت في مستشفى زاهي أزرق منذ عدة سنوات، ولديهم ملف كامل عن مرضي، كما كل المرضى، وكانوا يؤمنون لنا الدواء شهرياً، وإن كانت هناك صعوبات أحياناً في تأمينه، إذ كان يتأخر لكن كان هناك أمل، اليوم لم نأخذ أدويتنا منذ شهور طويلة، وتعرضت لأكثر من هجمة أثرت على حركتي، وكدت أصاب بالشلل الكامل لولا رحمة الله تعالى.. فمتى تتجاوب معنا وزارة الصحة وتؤمن أدويتنا؟.
سناء إسكاف، من دمشق، أشارت إلى أن الأدوية المتوفرة حالياً في السوق السوداء باهظة الثمن، وتقتصر على أنواع محددة لحالات معينة من المرض، أو أنها مقتصرة على الكورتيزون فقط، ومعروفة آثاره السلبية على الصحة، أما الأدوية المطلوبة فلا تباع في الصيدليات أصلاً، فماذا نفعل في هذه الحالة؟
الوقت يساوي أرواح مرضى
“الثورة” تابعت القضية مع مدير مستشفى الأمراض الداخلية في حلب الدكتور أحمد زين، باعتباره المستشفى هو المعني بتأمين ومتابعة مرضى التصلب اللويحي في حلب، فأكد أن أدوية التصلب اللويحي متوقفة بالفعل منذ عدة أشهر.
ولدى سؤالنا عن دوره في معالجة هذا الواقع، أجاب: لقد قمنا عدة مرات برفع الحاجة السنوية والربعية من أدوية التصلب اللويحي للوزارة، وكان الرد أنها ستؤمّن تلك الحاجة قريباً، لكن التكلفة باهظة جداً، وعندما زار وزير الصحة، الدكتور مصعب العلي مستشفى الأمراض الداخلية وضعناه بصورة غياب أدوية مرضى التصلب، ووعدنا بتأمينها.
وأضاف: كلنا معرضون للإصابة بهذا المرض أو غيره من الأمراض المزمنة، وبالتالي واجب علينا جميعاً إيجاد حلول إسعافية، وقد نقلنا هذا الواقع وأكد وزير الصحة في زيارته الأخيرة على التجاوب.
وعندما سألنا الدكتور أحمد زين، عن أهمية عامل الوقت في حياة هؤلاء المرضى وإلى متى سيدفعون ثمن الانتظار من صحتهم وحياتهم؟ أجاب: أدرك تماماً أن الوقت يساوي أرواح مرضى، لكننا قانونياً أخلينا مسؤوليتنا من خلال المطالبة، أما شرعاً وإنسانياً فلن نمل من المتابعة. وأضاف: هل تصدقون أننا منذ أشهر ونحن نحارب لتأمين الأوكسجين والمحروقات والأدوية الإسعافية للمستشفى! لقد زارتنا عدة وفود وزارية، ووضعناهم بصورة الواقع، ونأمل توفير الحلول بالقريب العاجل.
قلة الأطباء الاختصاصيين
اللافت أن أكثر من 850 مريض تصلب لويحي في حلب، ينهض بعلاجهم، ومتابعة أوضاعهم الصحية مستشفى الأمراض الداخلية، وليس فيه سوى طبيبان اختصاص عصبية فقط، وهما باسل سليمان، ونهى طوبال.
فتصورا حجم الضغط الكبير، وكيف يمكن لطبيبين فقط، استيعاب حاجة مئات المرضى من العلاج والتفهم والمتابعة!! حول هذه النقطة أوضح مدير المستشفى أن السبب في ذلك هو نضوب الأطباء الاختصاصيين الذي تعاني منه البلد نتيجة تداعيات الحرب الطويلة والهجرة، والأجور المنخفضة في القطاع الحكومي.
في حين أكد الدكتور باسل سليمان، وهو أحد الطبيبين المعنيين بمتابعة مرضى التصلب اللويحي في حلب، وعددهم حسب ما ذكر وصل إلى 1000حالة مرضية، أن وزارة الصحة وعدت بمعالجة موضوع فقدان الأدوية، والجميع ينتظر، ويحدوه الأمل.
ردود “الصحة”
“الثورة” تابعت هذا الواقع منذ شهرين، وتواصلت مع وزارة الصحة عبر مكتبها الإعلامي، وطرحت العديد من التساؤلات حول غياب دور وزارة الصحة عن تأمين أدوية التصلب اللويحي بشكل خاص، ومجمل الأدوية المزمنة بما فيها أدوية السرطان، والفشل الكلوي عموماً، وانعكاس ذلك على تدهور الحالة الصحية لآلاف المرضى على امتداد الساحة السورية، فكان رد وزارة الصحة: نحتاج فقط لمزيد من الوقت.
وهذا هو الرد، نورده حرفياً: “تتابع وزارة الصحة بدقة أوضاع المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة، ومنهم مرضى التصلب اللويحي، وتؤكد أن توفير الأدوية اللازمة لهم يُعد أولوية قصوى ضمن خططها الصحية”. و”فيما يخص الشكاوى المذكورة، فقد تم اتخاذ إجراءات عاجلة لتسريع توزيع الأدوية، حيث إن بعض التأخيرات السابقة كانت بسبب تحديات لوجستية مرتبطة بالعقوبات المفروضة على البلد بفعل قانون قيصر من ناحية، ومن ناحية أخرى بالشركات المُورِّدة أو إجراءات الجودة والفحص الدوائي، والتي نحرص على الالتزام بها لضمان سلامة المرضى”.
إجراءات وزارية وحول الإجراءات المتخذة حالياً لمعالجة هذا الواقع، جاء في رد وزارة الصحة على أسئلة “الثورة”: إن العمل جارٍ على تعزيز التعاون مع الموردين المحليين والدوليين، لتسريع توريد الأدوية عبر التعاقد المباشر، وتفعيل خطط طوارئ لتوزيع الأدوية الحرجة عبر المستودعات المركزية والمستشفيات، بالإضافة إلى متابعة حالات المرضى الأكثر احتياجاً عبر فرق طبية مخصصة.
وتعمل الوزارة على تطوير منظومة التوريد، لتجنب أي تأخير مستقبلي، بما في ذلك تحديث قاعدة بيانات المرضى وتوسيع نطاق التغطية الدوائية. تتحمل المسؤولية وتعتذر ولدى سؤالنا عن مسؤولية التدهور الصحي الذي يعاني منه آلاف المرضى في سوريا نتيجة فقدان الأدوية التي كانت توفرها الوزارة مجاناً ومن يتحملها؟ جاء في الرد: إن وزارة الصحة تتحمل المسؤولية كاملة عن متابعة أوضاع المرضى، وقد تم توجيه المستشفيات والمراكز الصحية بتقديم الرعاية البديلة، والدعم اللازم لكل حالة حتى استلام الأدوية.
الجدير بالذكر أن وزارة الصحة قدمت اعتذارها عبر صحيفة “الثورة” لكل مريض تأثر بهذا الظرف، ومؤكدة أن سلامة المرضى هي محور عمل كوادرها، وختمت بالقول: (سنوافيكم بتفاصيل الإنجازات قريباً عبر موقعنا الرسمي.) بانتظار إتمام المناقصات بناء على تلك المعطيات، توقفنا وقتها عن نشر التحقيق، طالما أن القضية في طريقها للانفراج، لكن بعد مرور شهرين من دون أي بوادر حلول، أو رفد لمستشفيات الدولة بالأدوية اللازمة، عاود المرضى مناشدة الوزارة إيجاد حلول إسعافية مع تردي حالاتهم الصحية.
وتابعنا بدورنا الشكوى مع وزارة الصحة مجدداً، وجاء الرد من مدير الإمداد في الوزارة الدكتور عبد القادر المحمد، وذلك بتاريخ 27 / 9/ 2025 أنهم يعملون على إجراء مناقصات من أجل تأمين الأدوية، إلا أن بعض الأصناف لم يتقدم لتأمينها أحد حتى تاريخه، وسيتم تكرار طرحها مجدداً بانتظار تأمينها.
في النتائج بالمحصلة، هناك واقع مرير لابد من معالجته إسعافياً، فمن المرضى حالياً من يكافح لشراء إبرة تقيه شر هجمات المرض بملايين الليرات السورية، وهناك من ينتظر رحمة ربه، مستسلماً لهجمات وتداعيات التصلب اللويحي التي لا ترحم.
فهل يتم رفد شريان القطاع الصحي الحكومي بالمطلوب من الأدوية المزمنة، بما فيها التصلب اللويحي؟ نأمل أن تتم المناقصات بالسرعة الإسعافية تقديراً لتلك الأرواح التي أنهكها المرض وتكاليف علاجه.