الثورة – جهاد اصطيف:
مع بداية كل عام دراسي، يعود ملف السكن الجامعي في حلب إلى الواجهة، باعتباره أحد أهم التحديات التي تواجه آلاف الطلاب القادمين من مختلف المحافظات السورية، فالإقامة في المدينة الجامعية ليست مجرد سرير وغرفة، بل هي قضية ترتبط بالاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي للطالب، وتمثل بالنسبة لكثيرين شرطاً أساسياً للنجاح الأكاديمي.
هذا العام جاء مختلفاً، إذ أعلنت جامعة حلب عن إطلاق تطبيق إلكتروني جديد، يحمل اسم “مدينتي”، مخصص لتسجيل طلبات الإقامة في المدينة الجامعية، وذلك اعتباراً من 30 أيلول 2025، خطوة وصفت أنها “إصلاحية” في طريقة إدارة السكن، تهدف إلى تسهيل الإجراءات والحد من الفوضى والمحسوبيات التي لطالما رافقت التسجيل في السنوات الماضية. لكن ما بين الطموح إلى الحداثة، والمعاناة اليومية مع ضعف الانترنت، وقلق الطلاب من حرمانهم من السكن وما يترتب عليه من تكاليف باهظة من جراء الاستئجار خارج الحرم الجامعي، برزت آراء متباينة وتجارب شخصية متنوعة، ترسم صورة مركبة لواقع السكن الجامعي في حلب.
نقلة نوعية أم معاناة مضاعفة؟
منذ اللحظة الأولى لإعلان فتح باب التسجيل عبر “مدينتي”، سارع آلاف الطلاب لمحاولة الدخول إلى التطبيق، لكن التجربة لم تكن سهلة للجميع، فضعف شبكة الإنترنت في بعض المناطق، جعل عدداً من الطلبة يعجزون عن إتمام التسجيل.
“حاولت مراراً الدخول إلى التطبيق، لكن الإنترنت الضعيف، جعل العملية شبه مستحيلة، مع ذلك، أرى أن التجربة جيدة، لأنها تبعد الواسطة، وتمنح الطلاب فرصاً متساوية”، يقول “جميل .ح” الطالب في كلية العلوم لـ “الثورة”.
هذا الرأي يتقاطع مع أصوات كثيرة، اعتبرت أن أكبر إنجاز للتطبيق، هو إغلاق الباب أمام “المحسوبيات” التي شكلت لسنوات طويلة شبحاً يلاحق الطلاب، ففي الماضي لم يكن الحصول على سرير في المدينة الجامعية مرهوناً فقط بالاستحقاق، بل كثيراً ما لعبت العلاقات الشخصية والوساطات دوراً حاسماً.الغريب أن بعض الطلاب استعادوا ذكرياتهم مع التسجيل الورقي بنوع من “الحنين”، رغم ما حملته من مشقة، إذ تحدث طالب في كلية الهندسة قائلاً: كنت أقطع من حمص إلى حلب وأقف ساعات طويلة فقط للحصول على استمارة سكن، صحيح أن “المحسوبيات” كانت تحكم كل شيء، لكن على الأقل كنت أشعر أنني أملك فرصة بالمحاولة، اليوم إذا لم يفتح التطبيق أو كانت هناك أي مشكلة تقنية، فأنت خارج القيود.هذه المفارقة تكشف أن التحول الرقمي لا يكفي وحده إذا لم ترافقه بنية تحتية داعمة، وخصوصاً أن قطاع الإنترنت في سوريا عموماً يواجه مشكلات مزمنة من بطء وضعف وتكاليف مرتفعة.
كابوس للطلاب وأهاليهم
الهاجس الأكبر الذي يسيطر على الطلاب وأهاليهم، يتمثل في احتمال عدم الحصول على مقعد في السكن الجامعي، فحينها يكون الخيار الوحيد هو اللجوء إلى السكن الخاص في مدينة حلب، حيث الإيجارات شهدت قفزات غير مسبوقة.
طالبة طب من دير الزور، تصف معاناتها قائلة: بحثت العام الماضي عن شقة مع زميلاتي، فوجئنا أن الإيجار الشهري لشقة متواضعة قرب الجامعة يعادل خمسة أضعاف راتب موظف، أصحاب البيوت يستغلون حاجة الطلاب، والأسعار ترتفع كل شهر تقريباً.هذا الغلاء يضع الطلاب أمام خيارات صعبة، إما تحمل أعباء مالية خانقة، أو قطع مسافات طويلة يومياً من القرى والمناطق البعيدة، مع ما يعنيه ذلك من استنزاف للوقت والجهد.
أبعاد ولكن!
بعيداً عن الجانب المادي، يمثل السكن الجامعي تجربة حياتية مهمة للطلاب، فهو مساحة للاعتماد على الذات، ومكان للتعرف على أشخاص من خلفيات اجتماعية وجغرافية متنوعة.يوضح “محمد.أ”، طالب في كلية الهندسة الميكانيكية، أن العيش قرب الجامعة، يعني ساعات إضافية يمكن استثمارها في الدراسة أو الأنشطة الجامعية، كما أن وجودنا مع زملاء يشجع على المذاكرة المشتركة وتبادل الملاحظات.لكن التجربة لا تخلو من تحديات، فالسكن الجماعي يفرض قيوداً على الخصوصية، ويولد أحياناً مشكلات في التعايش مع أشخاص مختلفين في الطباع والعادات، بعض الطلاب الجدد يصفون الأمر بالمرهق، وخصوصاً في ظل الضوضاء المستمرة وجدول الحياة المشترك.
ثغرة لم تحل بعد
من بين الأسئلة التي طرحت بقوة مع إطلاق “مدينتي”، كيفية دفع الرسوم، بعض الطلاب تساءلوا إن كان يمكن ربط التطبيق بتطبيقات دفع إلكتروني محلية مثل “شام كاش”، ما يوفر وقتاً وجهداً ويخفف من الازدحام على مكاتب الدفع، لكن حتى الآن لم يعلن عن آلية واضحة بهذا الخصوص، ما يجعل العملية ناقصة من وجهة نظر الكثيرين.
من دون شك، ترى جامعة حلب في التجربة خطوة ضرورية نحو التحديث، كون الهدف الأساسي هو ضبط العملية ومنع التلاعب وتوزيع الفرص بعدالة، لكن التحدي يكمن في تذليل العقبات التقنية وتطوير التطبيق بشكل مستمر ليستجيب لاحتياجات الطلاب.
أستاذ جامعي أوضح أنه لا يمكن لأي تجربة تقنية أن تكون مثالية من البداية، المهم أن يتم الاستماع إلى الملاحظات وتحديث التطبيق بما ينسجم مع واقع الطلاب.
ما بعد الغرفة
لا تقتصر أهمية السكن الجامعي على توفير مأوى، بل تمتد لتشمل أبعاداً أكاديمية ونفسية، فوجود الطالب قرب كليته يخفف من ضغوط المواصلات، ويمنحه وقتاً أطول للتركيز في دراسته.
كما أن المشاركة في أنشطة جامعية، وحضور الندوات والمحاضرات الإضافية، تصبح أسهل بكثير لمن يقيم داخل المدينة الجامعية.
في المقابل، يبقى التحدي الأكبر في تهيئة بيئة سكنية داعمة اجتماعياً، بحيث لا يشعر الطالب بالعزلة أو الوحدة، وخصوصاً القادمين الجدد من محافظات بعيدة، وهنا تبرز الحاجة إلى برامج ترفيهية وثقافية تعزز روح الانتماء بين الطلاب.
بين الطموح والواقع
يبقى تطبيق “مدينتي” تجربة مهمة في طريق إصلاح ملف السكن الجامعي في حلب، ورغم العقبات التي واجهها الطلاب مع ضعف الانترنت وصعوبات التسجيل، إلا أن كثيرين ينظرون إليه كخطوة نحو العدالة والشفافية.
لكن النجاح الحقيقي للتجربة سيقاس بقدرة الجامعة على تطوير التطبيق، وتوسيع خدماته لتشمل الدفع الإلكتروني، وتقديم دعم فني مباشر، وضمان وصول جميع الطلاب إليه من دون تمييز.
السكن الجامعي سيظل حاجة أساسية ومطلباً ملحاً، ليس فقط لأنه يخفف الأعباء الاقتصادية، بل لأنه يوفر بيئة تعليمية ونفسية واجتماعية متكاملة، تساهم في بناء جيل طلابي أكثر استقراراً وقدرة على مواجهة تحديات الدراسة والحياة.