الثورة – علا محمد:
كلما اقترب الشتاء، تشتعل المخاوف أكثر مما تشتعل المدافئ، فالمادة التي يُفترض أن تمنح الدفء تتحول إلى همٍّ يومي للأسر، بين كميات محدودة وأسعار لا تعرف الاستقرار. ومن هذا القلق المتجدد، ينطلق حديث الخبير الاقتصادي الدكتور علي محمد لـ”الثورة”، موضحاً أن مسار المحروقات في سوريا شهد تحولات عميقة منذ عام 2005، عندما انتقلت البلاد من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، حينها ارتفع سعر ليتر المازوت فجأة من 7 إلى 25 ليرة، في خطوة اعتُبرت جرس إنذارٍ مبكرٍ للأسر بضرورة خفض استهلاكها.
ومع قيام الثورة عام 2011، وفرض العقوبات، تحولت المشتقات النفطية إلى سلعة نادرة، وارتفعت أسعارها تبعاً لتراجع سعر الصرف وارتفاع تكاليف الاستيراد والشحن، لتصبح التدفئة هاجساً موسمياً يتكرر كل عام مع اقتراب الشتاء.
من الشمال إلى الساحل
وبناء على تباين الجغرافيا والمناخ، يوضح د. محمد أن الحاجة الفعلية للمازوت تتفاوت من منطقة إلى أخرى، ففي الشمال، حيث الشتاء أقسى، قد يصل استهلاك الأسرة إلى 1500 ليتر، فيما ينخفض في الشرق إلى نحو 1200 ليتر، في حين يقترب الاستهلاك في الساحل والجنوب من 1000 ليتر سنوياً، ورغم هذا التفاوت، اضطرت معظم الأسر خلال السنوات الماضية إلى التعايش مع كميات محدودة لا تتجاوز 200 ليتر، فيما يشبه “اعتياداً إجبارياً” على القلة أكثر منه خياراً حراً، لتتحول التدفئة إلى معادلة يومية بين البرد والقدرة على الشراء.
أما عند الحديث عن الفجوة بين الحاجة الحقيقية وما هو متاح، يبيّن الخبير الاقتصادي أن سياسات الدعم السابقة لم تلامس الواقع المعيشي فعلياً، إذ لم يتجاوز التنفيذ خلال فترة البطاقة الذكية نصف الكمية المخصصة للأسرة (100 ليتر مدعوم و100 ليتر حر)، لكن اليوم، وبعد رفع الدعم وتحرير الأسعار، أصبح المازوت متوفراً في السوق الحر، لكنه يخضع لتقلبات العرض والطلب، فإذا تراجع المعروض مع زيادة الطلب الشتوي، فإن ارتفاع الأسعار سيكون حتمياً، وهو ارتفاع لا يطال التدفئة والنقل فقط، بل يمتد إلى مجمل العملية الإنتاجية من الزراعة حتى الشحن والتوزيع، ومع ذلك، يؤكد أن احتمالات ارتفاع الأسعار يمكن ضبطها بوجود رقابة فعلية من وزارة الداخلية على الأسعار في السوق، إلى جانب إعلان وزارة النفط تسعيرة رسمية في الكازيات لضمان استقرار نسبي يحدّ من التلاعب.
أرقام صامتة
عند تفكيك الصورة رقمياً، يشير د. محمد، إلى أن عدد الأسر السورية يبلغ نحو 4,2 ملايين أسرة وفق بيانات سابقة لحكومة النظام البائد، من دون احتساب المناطق التي كانت محررة سابقاً، ومع إضافة الوافدين بعد التحرير، والذين يُقدّر عددهم بنحو مليون شخص أي ما يعادل 200 ألف أسرة، تصبح الحاجة السنوية لكل أسرة نحو 500 ليتر من المازوت، ما يجعل الاحتياج الإجمالي يقترب من 2,2 مليار ليتر لتغطية احتياجات المواطنين.
وعلى الرغم من ضخامة هذا الرقم، لم تشهد الأشهر الأولى من عام 2025 وحتى نهاية نيسان أي انقطاع يُذكر في تزوّد العائلات بمادة التدفئة، فقد توفرت المادة في السوق وفي الكازيات، ما اعتُبر مؤشراً على تحسن نسبي مقارنة بالسنوات السابقة، وإن بقي القلق يحوم في وجدان الناس مع اقتراب فصل الشتاء.
الدفء المنتظر
وهكذا، يخلص الدكتور علي محمد إلى أن الحل بالتأكيد لا يكمن في العودة إلى سياسات الدعم القديمة التي فتحت أبواباً للتهريب والفساد، بل في تأمين المادة بكميات كافية واستيرادها وفق منطق السوق الحر الذي أعلنت الحكومة اعتماده منذ التحرير، المواطن، كما يقول، لا يعنيه شكل المعادلة الاقتصادية بقدر ما يعنيه أن يجد المازوت متوفراً ليحمي أسرته من برد الشتاء.
ختاماً.. يبقى المازوت اليوم امتحاناً حقيقياً للسياسات الاقتصادية، ومؤشراً على قدرة الحكومة على التوازن بين استقرار السوق وحماية الأسر، فحين يتوافر الدفء في كل منزل من دون انقطاع، يمكن القول: إن الاقتصاد بدأ يستعيد عافيته مع أول برد الشتاء.