الثورة – ناديا سعود:
بين سوريا والأردن والسعودية، تنقّل المدير العام لشركة بوابة الإبداع الذكية للتقنيات في السعودية المهندس أيمن فرستقي- مدير البحث والتطوير في شركة جبال الأردن، والمدير العام للشركة الهندسية للتقنيات الحرارية في سوريا، تنقّله هذا لم يكن مجرد رحلة عمل، بل تجربة ميدانية مع واقع الطاقة واستهلاكها، مكّنته من قراءة المشهد بعمق، ووضع يده على واحدة من أخطر المشكلات التي تواجه منطقتنا.
في حوار مطوّل مع “الثورة”، شدد م. فرستقي على أن النقاش الدائر حول الطاقة في منطقتنا لا يزال سطحياً، ويكاد يقتصر على الحديث عن “الطاقات المتجددة” باعتبارها الحل السحري حسب رؤيتهم، فيما هي في الواقع جزء صغير من معادلة كبيرة للبيئة المستدامة ومنها: إدارة الطاقة وكفاءتها. ويرى أن التركيز المبالغ فيه على الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح في منطقتنا خطأ جوهري، ويشرح: نحن نتصرف وكأن تركيب لوحين شمسيين على سطح بناء يحلّ مشكلة الطاقة، فيما الواقع أن هذه الألواح بالكاد تعطي 600 واط في ظروف مثالية، المشكلة الحقيقية تكمن في عدم اعتماد قوانين البيئة المستدامة ومنها كفاءة الطاقة للتجهيزات المستوردة وإدارة الطاقة للتجهيزات الكهربائية من خلال فرض عمل برامج تحكم وإدارة للطاقة في المشاريع وغيرها، وأيضاً غياب العزل الحراري وضعف مواصفات الأبنية، وهو ما يجعل الوضع شبيهاً بمن يملأ الماء في مصفاة مهما وضعت فلن تحتفظ بشيء. ويضرب المهندس فرستقي مثالاً على ذلك، كان هناك قرار منذ عام 2009 بفرض العزل الحراري في الأبنية، لكنه لم يُطبّق، لا البلديات تراقب، ولا المهندس المقيم، ولا الجهات المعنية تدقق، النتيجة: هدر هائل للطاقة، مع أن معالجة هذا الجانب كانت ستوفر أكثر بكثير مما تنتجه ألواح الطاقة الشمسية.
التجربة السعودية والأردنية
خلال عمله في السعودية، أطلق م. فرستقي برنامجاً لإدارة الطاقة، بعد اطلاعه على إحصاءات رسمية عام 2021 أظهرت أن نسبة الهدر في استهلاك الطاقة هناك تتراوح بين 30 و40 بالمائة، رغم توفر البنية التحتية الجيّدة والعزل الحراري والتشدد في كفاءة الأجهزة المستوردة والسبب هو الاستخدام غير الكفوء للطاقة، وضعف إدارة الطاقة والفواتير الرخيصة للكهرباء لديهم شجّع تلك العوامل للهدر، لذلك شددت السعودية على معايير صارمة، أي جهاز كهربائي منزلي أو صناعي لا يُسمح بدخوله إلا إذا حقّق مواصفات كفاءة محددة، وأيضاً زاد اهتمامها بشكل كبير بموضوع إدارة الطاقة.
يقول: لقد فرضت الدولة هناك ثقافة جديدة في المجتمع عبر سياسات تدريجية لرفع الدعم، بالتوازي مع إجراءات لترشيد الاستهلاك وإدارة الطاقة، مضيفاً: الأردن أيضاً تبنّت هذه الفلسفة، فلا تُدخل تجهيزات كهربائية إلى السوق إلا إذا كانت مطابقة للمواصفات، فيما في بلدنا، كل شيء يدخل إليها من دون أي ضوابط تتعلق بكفاءة الطاقة وهو ما يفسّر حجم الهدر الهائل لدينا. ويشرح المهندس فرستقي أن حجم الهدر في بلد مثل سوريا كبير جداً، الدولة تولد عشرات الغيغاوات من الكهرباء، لكن ما يزيد عن 30 بالمئة إلى 40 بالمئة يضيع نتيجة أجهزة غير كفوءة، إضافة إلى الفاقد الفني عبر الشبكات وخطوط النقل، موضحاً: عندما قدمنا برنامج إدارة الطاقة في السعودية، استهدفنا بداية إدارات الدولة التي تشكل نحو 16بالمائة من الاستهلاك العام، عبر برامج إدارة الطاقة وجدنا أننا قادرون بسهولة على توفير بين 15 و20 بالمائة من الاستهلاك، أطلقنا تجارب عملية أثبتت نجاحها، وأبرمنا عدة اتفاقيات تعتمد على مشاركة الوفورات، نحن نُوفّر الطاقة، ويقتسم صاحب المشروع معنا التوفير.
ضرورة وليست ترفاً
ويرى أن المشكلة في منطقتنا تكمن في أن عقلية حلّ مشكلة الكهرباء لدينا قاصرة، مؤكداً أنه يوماً ما سيرفع الدعم الحكومي عن الكهرباء، حينها سيتفاجأ الناس بأن فواتيرهم ارتفعت ثلاثة أو أربعة أضعاف، من لم يُهيّئ نفسه باستخدام أجهزة ذات كفاءة عالية ومن لم يعمل بإدارة الطاقة سيجد نفسه أمام كارثة مالية، ويرى أن الدولة يجب أن تفرض إلزاميات وقوانين صارمة، حتى لو بدت قاسية في البداية، لأنها تصبّ في مصلحة المواطن على المدى الطويل.
من وجهة نظر المهندس فرستقي، فإن أحد أكبر التحديات هو غياب التنسيق بين الجهات المعنية، فنقابة المهندسين تصدر كودات ومعايير، لكنها لا تُطبق، البلديات لا تدقق، الجمارك تسمح بدخول أجهزة غير مطابقة للمواصفات العالمية، ووزارة الإدارة المحلية، ووزارة الاقتصاد، وبحوث الطاقة، كل جهة تعمل منفردة.
مبيناً: ما لم تتشكل لجنة مشتركة تضم هذه الجهات لتوحيد دفاتر الشروط الفنية للمشروعات واعتماد مواصفات صارمة بالاستيراد، فسنظل ندور في حلقة مفرغة، المستثمر نفسه بحاجة إلى تحديث الشروط الفنية الواضحة بما ينسجم مع البيئة المستدامة، وإلا سنعود بعد عشر سنوات لنكتشف أننا بنينا مشروعات مليئة بالهدر، ونضطر إلى تحديثها من جديد بتكلفة مضاعفة، على أن الطاقة المتجددة يجب أن تُوظّف كجزء من استراتيجية متكاملة، لا أن تكون هي الاستراتيجية كلها.
ويقول: في ظروف منطقتنا، إنتاج الطاقة من الشمس أو الرياح لن يغطي أكثر من 10 إلى 15 بالمئة من الحاجة وبتكلفة عالية على المستهلك، التي تزيد من الأعباء المالية والاقتصادية على المواطن، فيما علينا بالدرجة الأولى البحث عن طرق أكثر فعالية عبر رفع كفاءة الأبنية والأجهزة وتطبيق إدارة الطاقة.
من التنظير إلى التطبيق
يختم المهندس فرستقي حديثه، مؤكداً أن الخطر الأكبر يكمن في أننا بارعون في التنظير وإلقاء المحاضرات، فيما التنفيذ غائب، وهناك غياب تام بالاهتمام بهذا الأمر في المشروعات المستقبلية، ويقول: ما أتمناه أن ننتقل من مرحلة الكلام إلى العمل، نحتاج إلى تحديث قوانيننا وشروطنا الفنية، وفرضها بشكل إلزامي، تماماً كما فعلت السعودية والأردن، الاستثمار في إدارة الطاقة وكفاءتها قد يرفع التكلفة التأسيسية لأي مشروع، لكنه على المدى الطويل يوفّر للدولة والمجتمع أرقاماً خيالية، ويخلق بيئة مستدامة بحق.