الثورة – ثراء محمد:
مع مطلع كل عام دراسي، يخوض الطفل تجربة مفصلية في مسار نموه النفسي والاجتماعي، هي دخوله إلى الروضة للمرة الأولى، وعلى الرغم من أن هذه اللحظة قد تبدو بسيطة في ظاهرها ضمن تفاصيل الحياة اليومية، فإنها في جوهرها مرحلة انتقالية عميقة تضع الطفل أمام تحديات جديدة تتعلق بالانفصال عن أسرته، والتأقلم مع بيئة اجتماعية غير مألوفة، وهي ما يُطلق عليها المختصون اسم “الفطام العاطفي”.
وفي هذا السياق توضح اختصاصية الطفولة المبكرة ثناء ضاحي، أن الفطام العاطفي هو عملية انتقال تدريجية يتحرر فيها الطفل من الاعتماد الكامل على والديه، ولاسيما الأم نحو اكتساب قدر من الاستقلالية.
ويُعد دخول الروضة شكلاً متقدّماً من هذا الفطام، إذ يتعلم الطفل التعبير عن ذاته، وتكوين صداقات جديدة، والتعامل مع المواقف اليومية بعيداً عن الحماية المباشرة لوالديه.
دموع على الأبواب
مشهد بكاء الأطفال عند بوابات الروضات صورة مألوفة لا تدعو إلى القلق، فهو تعبير طبيعي عن صدمة الانفصال الأولى، إذ يشعر الطفل حينها بأن والديه يتركانه في مكان غريب، فيتمسك بهما خوفاً من فقدان الأمان.
هذه الدموع ليست علامة ضعف، بل دليل على متانة الرابطة العاطفية التي نشأت بين الطفل وأسرته، ومع مرور الوقت، وتوفر الدعم النفسي من الأهل والمعلمات، يكتشف الطفل أن الروضة مكان آمن زاخر بالأصدقاء والأنشطة الممتعة، فتتلاشى مشاعر القلق تدريجياً، وتتحول التجربة إلى خبرة إيجابية تعزز ثقته بنفسه واستقلاليته.
أدوار متكاملة
لا ينحصر التحدي في الطفل وحده، فالأهل بدورهم يواجهون صعوبة في تقبّل فكرة انفصال أبنائهم، خصوصاً عند التجربة الأولى، ومن هنا تبرز أهمية التعاون الوثيق بين الأسرة والروضة لضمان تهيئة الطفل نفسياً وتربوياً لهذه المرحلة.
تشير الاختصاصية ضاحي إلى أن تأقلم الأطفال مع الروضة يمر بمراحل متعددة، من البكاء والرفض الشديد، إلى المشاركة الجزئية في الأنشطة، وصولاً إلى الانخراط الكامل والحماس للذهاب إلى الروضة، وتختلف مدة هذه المراحل من طفل لآخر تبعاً لشخصيته ومدى الدعم الذي يتلقاه من أسرته ومعلماته.
فوائد بعيدة المدى
رغم صعوبة البداية، فإن تجربة الاسبوع الأول في الروضة تحمل في طياتها فوائد نفسية وتربوية عميقة، فهي تُعلّم الطفل الانفصال المؤقت عن أسرته دون أن يفقد شعوره بالأمان، وتنمّي مهاراته الاجتماعية عبر اللعب الجماعي والتفاعل مع الأقران، كما تُطوّر لغته من خلال الحوار والأغاني والأنشطة الصفية، وتُسهم التجربة كذلك في تعزيز ثقته بذاته من خلال إنجازاته الصغيرة، وتدريبه على ضبط انفعالاته في مواجهة بيئة جديدة.
تؤكد الاختصاصية ضاحي أن للأهل دوراً حاسماً في تخفيف وطأة هذه المرحلة من خلال تهيئة الطفل مسبقاً، بالحديث الإيجابي عن الروضة وتجنّب إظهار القلق أمامه، وتنظيم زيارات تعريفية للمكان قبل اليوم الأول، وإشراكه في تجهيز أدواته الخاصة، كما تنصح باعتماد وداعٍ قصير وهادئ في الصباح، ثم متابعة الطفل بعد عودته والاحتفاء بإنجازاته الصغيرة.
ويُعد التعاون المستمر بين الأسرة والمعلمات أساساً في متابعة تطور الطفل ونجاح عملية الفطام العاطفي، الذي تتجلى علاماته في رغبة الطفل في الذهاب إلى الروضة، ومشاركته الفاعلة في اللعب والأنشطة، واستقلاليته المتنامية في المواقف اليوم.
الروضة تبرز كتجربة إنسانية ثرية تمنح الطفل فرصته الأولى لاختبار العالم باستقلالية، وتُشكّل اللبنة الأولى في بناء شخصيته وثقته بنفسه، إنها ليست مرحلة عابرة، بل أساس متين لمستقبل الطفل العاطفي والاجتماعي، وعلى الأسرة أن تتعامل معها بوعي وصبر، إدراكاً لأهميتها العميقة في تشكيل ملامح النمو الإنساني المتوازن.