الثورة – إيمان زرزور
في شمال سوريا، وتحديداً في مدينة عفرين التي أنهكتها الحرب والنزوح، عاد الحديث مجدداً عن نوع آخر من الإعمار لا يطال الحجر، بل الإنسان نفسه، هناك، أطلق الهلال الأحمر القطري مشروعاً جديداً لدعم مركز “الأمل” للتأهيل والتعافي النفسي، في خطوة تُعيد تسليط الضوء على أحد أكثر الملفات الإنسانية إلحاحاً في سوريا بعد الحرب: الصحة النفسية.
بعد أكثر من عقد من الحرب، لم تعد الجراح التي خلّفتها القذائف تُقاس فقط بما تهدّم من الأبنية أو بما فُقد من الأرواح، بل بما بقي عالقاً في أذهان الناجين، فملايين السوريين اليوم يعيشون اضطرابات ما بعد الصدمة، القلق، الاكتئاب، وانهيار الثقة بالآخرين، ومع أن الحرب انتهت فعلياً في معظم الجغرافيا السورية، إلا أن آثارها النفسية ما زالت تُدير حرباً صامتة في داخل الناس.
بحسب تقديرات منظمات الإغاثة الدولية، فإن واحداً من كل ثلاثة سوريين يحتاج إلى نوع من الدعم النفسي أو الاجتماعي، بينما لا يتجاوز عدد المتخصصين في هذا المجال بضع مئات في عموم البلاد. ومع تدمير البنى التحتية وتراجع الخدمات الصحية، تحوّلت معاناة السوريين النفسية إلى عبء اجتماعي يهدد تماسك المجتمعات المحلية ومستقبلها.
مشروع مركز “الأمل” الذي أطلقه الهلال الأحمر القطري بالتعاون مع منظمة “شفق”، يهدف إلى تقديم نموذج متكامل للرعاية النفسية في بيئة مثقلة بالفقد والتهجير، يمتد المشروع على مدى 11 شهراً، ويستهدف أكثر من 4100 شخص بشكل مباشر من سكان عفرين والنازحين إليها، بينما يُتوقع أن تصل آثاره غير المباشرة إلى أكثر من 20 ألف مستفيد.
يتضمن المركز عيادات داخلية وخارجية، وفريقاً متنقلاً يجوب القرى والبلدات لتقديم الاستشارات والعلاج والدعم النفسي، إلى جانب رعاية الحالات المحالة من المراكز الصحية الأخرى، ويعمل ضمن المشروع فريق من الأطباء والاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين، يتولون معالجة الاضطرابات الخفيفة إلى المتوسطة، وصرف الأدوية النفسية وفق بروتوكولات منظمة الصحة العالمية ضمن برنامج “سد الفجوة في الصحة النفسية”.
يولي المشروع اهتماماً خاصاً برفع الوعي العام، من خلال جلسات توعية للأسر والمجتمع المحلي حول أهمية الصحة النفسية وطرق التعامل مع الصدمات. فالكثير من العائلات ما زالت تتعامل مع الاضطرابات النفسية بوصفها عيباً اجتماعياً أو ضعفاً شخصياً، لا كحالة مرضية قابلة للعلاج.
كما يسهم وجود العيادة المتنقلة في الوصول إلى المناطق النائية التي تفتقر إلى أي دعم نفسي أو اجتماعي، حيث لا توجد بنية صحية متكاملة، ولا سيما في القرى المهدّمة أو تلك التي يسكنها نازحون منذ سنوات.
ويعتمد المشروع على نظام إحالة منسق مع المراكز الطبية والمنظمات العاملة في المنطقة لتأمين متابعة دقيقة لكل حالة.
يقول أحد الأطباء العاملين في المركز إنّ أكثر الحالات التي يتم استقبالها تعود لأطفال فقدوا أحد والديهم أو عاشوا تجربة قصف مباشر، إضافةً إلى نساء تعانين من اضطرابات القلق والاكتئاب نتيجة فقدان الأزواج أو العيش في بيئة غير مستقرة، ويشير الطبيب إلى أن بعض الحالات تستجيب للعلاج خلال أسابيع، فيما تحتاج حالات أخرى إلى أشهر من المتابعة المكثفة بسبب عمق الصدمة وطول أمدها.
ورغم محدودية الإمكانات، نجحت بعض المراكز المشابهة في تحقيق أثر واضح على المستويين الفردي والمجتمعي، إذ تساهم جلسات الدعم النفسي في الحد من السلوكيات العدوانية والاكتئاب، وتعيد بناء القدرة على التواصل والاندماج في الحياة العامة.
تحتاج سوريا اليوم إلى خطة وطنية شاملة لمعالجة الآثار النفسية للحرب، بالتوازي مع التحذيرات المتكررة من منظمات الصحة العالمية من تفاقم ما يُسمى بـ”الصدمة الجماعية” التي يعيشها المجتمع السوري، فالجهود الحالية لا تزال محصورة في مبادرات محدودة تقودها منظمات إنسانية، بينما تغيب المؤسسات الحكومية عن أداء دورها في هذا المجال الحيوي.
ويشير خبراء الصحة النفسية إلى أن غياب الدعم المؤسسي وندرة الكوادر المتخصصة يهددان بترك جيل كامل من الأطفال يعاني اضطرابات غير معالجة، مما ينعكس على قدرتهم المستقبلية في التعلم والعمل والتواصل الاجتماعي.
وتجاوزت آثار الحرب حدود الجغرافيا لتطال ملايين اللاجئين والنازحين السوريين في الداخل والخارج، وتشير تقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى ارتفاع نسب الاكتئاب ومحاولات الانتحار بين اللاجئين السوريين، خاصة في المخيمات التي تعاني ظروفاً قاسية وغياب الدعم النفسي المتخصص.ويحذر مختصون من أن تجاهل هذه الآثار يهدد بتكرار دوائر العنف داخل المجتمع السوري، إذ يتحول الألم غير المعالج إلى غضب اجتماعي، والعزلة إلى تفكك أسري، والاضطراب النفسي إلى عنف أو انكفاء كامل عن المشاركة المجتمعية.
ويشكل مشروع “الأمل” في عفرين مثالاً عملياً على إمكانية تحويل الدعم النفسي من مبادرات محدودة إلى ركيزة أساسية في عملية إعادة الإعمار، فالإعمار الحقيقي لا يقتصر على ترميم الأبنية، بل يبدأ بإعادة بناء الإنسان ذاته، واستعادة إحساسه بالأمان والانتماء والكرامة.
وتبقى الصحة النفسية في سوريا بعد الحرب تحدياً وطنياً وإنسانياً لا يقل أهمية عن إعادة الإعمار المادي، فالشعوب لا تتعافى بالخرائط أو الاتفاقيات، بل حين تتصالح مع ذاكرتها وتعيد التوازن بين الماضي والمستقبل، ومن هنا، تأتي أهمية مثل هذه المشاريع التي تعيد الاعتبار للإنسان السوري كقيمة عليا في عملية إعادة البناء، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة يكون فيها الشفاء الجماعي أساساً لأي سلام دائم في البلاد.