الثورة – إيمان زرزور:
برزت كلمة رئيس الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، عامر العلي، خلال اجتماع الشبكة الإقليمية لاسترداد الأصول (MENA-ARIN) في المملكة العربية السعودية، كإعلان واضح لمرحلة جديدة تتجه فيها دمشق نحو استعادة الأموال المنهوبة وبناء منظومة مالية تقوم على الشفافية والمساءلة بعد عقود من الفساد الممنهج الذي رسّخه نظام الأسد البائد.
منذ سقوط النظام السابق، تعمل الدولة على مواجهة أحد أكثر الملفات تعقيداً في تاريخها الحديث: “ملف الفساد المنظّم الذي كان جزءاً من بنية الحكم وليس مجرد انحراف إداري”، فخلال العقود الماضية، كانت مؤسسات النظام البائد تستخدم القوانين ذاتها لتقنين النهب وتحويل المال العام إلى أداة للولاء السياسي، ما أدى إلى تدمير الثقة بين الدولة والمجتمع، وتآكل القاعدة الاقتصادية للبلاد.
وفي هذا السياق، تأتي تصريحات العلي لتعلن بوضوح أن معركة سوريا اليوم لم تعد ضد الفساد الصغير، بل ضد نظام الفساد نفسه، فاسترداد الأصول المنهوبة يعني استعادة للسيادة الوطنية على الموارد، ومحاولة لتجفيف مصادر القوة غير المشروعة التي تراكمت بفضل شبكات السلطة والتهريب والفساد الإداري طوال عقود.
من بين الرسائل الأعمق التي حملها خطاب العلي، هي أن الاستقرار الاقتصادي لا يمكن تحقيقه دون إعادة بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها، إذ يمثل استرداد الأموال المنهوبة، داخلياً وخارجياً، إعلاناً بأن الدولة السورية الجديدة تتجه نحو نظام حكم يستمد شرعيته من النزاهة والمحاسبة لا من القوة والهيمنة.
وهذا التحول لا يقتصر على الشعارات، بل بدأ يُترجم في جملة من الإجراءات التشريعية والرقابية التي أطلقتها الحكومة لتعزيز النزاهة المالية، وتوسيع صلاحيات الأجهزة الرقابية، وتفعيل الرقابة القضائية على المال العام.
تأكيد العلي على التعاون مع شبكة “مينا – أرين” يعبّر عن تحوّل استراتيجي في مقاربة سوريا لمسألة الفساد، إذ لم تعد تنظر إليه كملف داخلي، بل كقضية ذات امتداد دولي تتطلب تعاوناً عابراً للحدود لتتبع الأصول المهربة واستعادتها.
فالفساد في عهد النظام البائد لم يكن محصوراً داخل البلاد، بل كان عابراً للحدود، حيث تحولت حسابات المصارف والعقارات في الخارج إلى أدوات لتهريب ثروات السوريين، واليوم، مع انضمام سوريا لهذه الشبكة، تُفتح نافذة جديدة للتعاون القانوني مع الدول العربية والغربية، لاستعادة تلك الأموال وإعادتها إلى الدورة الاقتصادية الوطنية، في خطوة من شأنها إعادة ضخ الثقة والاستثمار في الاقتصاد السوري.
يأتي هذا التوجه الرقابي في وقتٍ تستعد فيه البلاد لمرحلة إعادة الإعمار الاقتصادي والإداري، وهو ما يجعل من مكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة شرطاً أولياً لأي نهضة اقتصادية حقيقية، ومن دون استعادة الثقة بالمؤسسات، لا يمكن لأي خطة إعمار أن تستقطب رؤوس الأموال أو أن تضمن عدالة توزيع الموارد.
ويؤكد خبراء الاقتصاد أن الشفافية في إدارة المال العام هي الضمانة الأولى لجذب الاستثمارات الخارجية، وأن الإصلاح المالي والإداري هو البنية التحتية الحقيقية لأي عملية إعادة بناء، ومن هنا، فإن كلمة العلي في مؤتمر دولي هي تعبير عن رؤية سياسية جديدة تتبناها الدولة السورية: رؤية تُقرّ بأن التنمية لا تنفصل عن النزاهة، وأن الاقتصاد المستدام لا يقوم على المعونات بل على العدالة في إدارة الموارد.
والحديث عن استرداد الأموال المنهوبة في سوريا اليوم لا يقتصر على استعادة مليارات الدولارات المهربة، بل يتعداه إلى استرداد قيمٍ معنوية فقدها السوريون لسنوات: الثقة، والمواطنة، والعدالة، فكل ليرة تُستعاد تمثل رمزاً لإعادة الاعتبار لمفهوم الدولة بعد عقود من الفساد الممنهج.
وفي هذا السياق، يبرز دور الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش كأحد أعمدة الدولة الحديثة، في بناء إدارة نظيفة ومؤسسات شفافة قادرة على مراقبة نفسها بنفسها.
في ختام كلمته، شدد العلي على أن الهدف ليس فقط ملاحقة الفساد، بل منع نشوئه من الأساس عبر تحديث الأنظمة المالية والرقابية، واعتماد مبدأ الوقاية المؤسسية، وهذا يعني أن الدولة السورية تسعى لتأسيس بيئة اقتصادية “تغلق الثغرات قبل وقوع الانتهاك”، وتربط الأداء الإداري بالنتائج لا بالمناصب، في محاولة لتصحيح المسار الذي حوّل الرقابة سابقاً إلى أداة شكلية بيد السلطة.
يمكن القول إن خطاب عامر العلي في جدة كان إعلاناً لمرحلة اقتصادية جديدة في سوريا، تتقاطع فيها الجهود الوطنية مع الدعم الإقليمي والدولي، في إطار من الواقعية والمسؤولية، فاسترداد الأصول المنهوبة هو إعادة تعريف لوظيفة الدولة بعد الحرب، وبداية عهد جديد تقوم فيه السلطة على المساءلة والشفافية لا على المحسوبية والفساد.
ويتكامل مشروع استرداد الأصول المنهوبة مع الجهود الحكومية الجارية لإصلاح المنظومة المالية في سوريا، والتي تشرف عليها الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش بالتعاون مع الجهاز المركزي للرقابة المالية، وممثلين عن البنك الدولي، فالغاية في الحالتين واحدة: إعادة بناء الثقة بالنظام المالي السوري، وترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة كشرطٍ أساسي لاستقرار الاقتصاد وإعادة الإعمار.