الثورة – سعاد زاهر:
لا يمكن أن تخطو نحو خان أسعد باشا العظم، ذلك المبنى الدمشقي العريق المتربع في قلب السوق القديم، دون أن تشعر بأنك تدخل إلى عالم مختلف، حجارة الخان السوداء والبيضاء تتنفس تاريخا طويلا، وتمنح الزائر مهابة لا تشبه أي مكان آخر.
وفي يوم الثقافة العالمي، بدا خان أسعد باشا أشبه بمسرح كبير يلتقي فيه الحرفيون والفنانون التشكيليون، لتولد حالة فريدة تجمع بين المعاصرة والتراث، بين هوية الماضي وروح التجديد.
معرض “ريشة وتراث” الذي أقامته اليوم وزارة الثقافة ومديرية ثقافة دمشق، كان احتفالا بالذاكرة السورية وبقدرة الفن على البقاء، وعلى إعادة صياغة الحكاية رغم كل ما مرّ به البلد.
مكان يفرض مهابة الفن وجماليته
منذ اللحظة الأولى للدخول إلى الخان، بدا واضحا أنّ المعرض يمتلك روحه الخاصة، فالمكان الذي شُيّد في القرن الثامن عشر، وانطبقت عليه صفات الفخامة الدمشقية، بدا كأنه يتناغم مع اللوحات والأعمال الحرفية ويمنحها إطارا بصريا يعزز قيمتها.
يقول محمد أرحابي، مدير ثقافة ريف دمشق لـ “الثورة” من المهم جدا أن تقام مثل هذه المعارض في أماكن أثرية كخان أسعد باشا، لأننا بذلك نحاكي الواقع الدمشقي ونربط الفن بجذوره.
اختيار الخان لم يكن مصادفة، فهو أفضل مكان يمكن أن يحتضن فنا يستلهم من التراث ويعيد تقديمه بصورة معاصرة..
رؤية مستمرة لإحياء الحرف ودعم الفنانين
يؤكد أرحابي أن دور وزارة الثقافة لا يقتصر على التنظيم فحسب، بل يتجاوزه إلى دعم الحرفيين والفنانين وتمكينهم من الاستمرار، ويضيف: هذه الحرف إن لم تُدعَم قد تندثر.
نحن نعمل باستمرار على منح الفرص للحرفيين وتشجيعهم، وتعزيز مهاراتهم اليدوية للحفاظ على هذا الإرث، كما نحرص على مشاركة كبار الفنانين الذين يقدمون لوحات عظيمة وذات قيمة فنية عالية.
ويشير أرحباني إلى أن إقامة هذه المعارض بشكل دوري هو جزء من رؤية الوزارة لتعزيز المشهد الفني السوري وإبرازه، خصوصا بعد سنوات صعبة عاشها البلد.

يجمع الأجيال
من جهتها، ربا دياب مديرة المركز الثقافي في ضاحية قدسيا أوضحت أن اختيار اسم “ريشة وتراث” جاء ليعكس جوهر الفعالية فالمعرض “يجمع بين الفن التشكيلي، النحت، وبين الصناعات التراثية.. إنه مساحة واسعة تتقاطع فيها الفنون البصرية مع الحرف التقليدية.
23 تشرين الثاني هو يوم الثقافة العالمي، وأردنا أن نحتفل به عبر معرض يضم لوحات، منحوتات، ومنتجات حرفية سورية أصيلة.
“تضيف دياب أن عدد المشاركين وصل إلى 70 فنانا تشكيلياً، إضافة إلى 15 حرفياً قدّموا أعمالاً متنوعة في الزجاج، الخشب، الدمى، الموزاييك، الكتابة على الزجاج، والمطرزات، كما شاركت في المعرض مديرية الآثار والمتاحف ومؤسسة “حُلم دمشقي” التي تُعنى بالصناعات التقليدية.
والأهم في هذه الأنشطة بحسب دياب منحهـا الفرصة للشباب لعرض أعمالهم مجانا، نحن نؤمن بأهمية دعم الجيل الجديد وتشجيعه كي يستمر في هذا الطريق..
حين يتجدد التراث
شاركت مؤسسة حلم دمشقي في المعرض، تلبية لدعوة وجهت لها من وزارة الثقافة، حيث شاركت بمجموعة من الحرف، منها الفسيفساء، خراطة الخشب، دمى مسرح العرائس، الموزاييك، القيشاني، وصحار العجمي.
مدير قسم الحرفيين في المؤسسة نفسها فؤاد عريش أوضح لـ “الثورة” أن وجود هذه الحرف التقليدية داخل خان أثري كهذا يخلق حالة انسجام فريدة، “المكان بحد ذاته يكمّل الجمالية البصرية. نحن طوال الوقت نسعى لإحياء هذه الحرف، والمعرض فرصة ليعرف الناس قيمتها وأصالتها”.
تجارب وشهادات بصرية
يقف النحات والرسام محمد نعّاج أمام أعماله التي تجسد تراكما جماليا طويلا، فكل قطعة خشب أو حجارة ” أتعامل معها حسب المخزون الجمالي الموجود لدي. أعمل بحرية كاملة على الورق وعلى الخشب، وأعتمد على الإزميل والمطرقة، كل شيء يدوي”.
يرى نعّاج في حديثه مع “الثورة” أن عرض أعماله في خان أسعد باشا منحها عمقا مختلفا، فالمكان “أضفى على أعمالي روحا إضافية، جعلها تتماهى مع التاريخ والحجارة”.
أصغر مشاركة تفتح باب المستقبل
في زاوية أخرى من المعرض، تقف الفنانة الصغيرة زمرد سويد، بعمر لا يتجاوز 17 عاما، لتعرض لوحتها التي تجسد مزهرية بألوان زهرية وصفراء مشرقة وتضيف “اخترت الألوان التي أراها قريبة من الزرع والضياء لأنها تمنح راحة للنظر”، على حد وصفها في حديثها مع “الثورة”.
وجوه تتحدث
بدورها تشارك الفنانة خلود كريمو بلوحتين، الأولى بورتريهات متداخلة تجسد النفس الإنسانية وتقلباتها، والثانية لامرأة ترمز للجمال والأمل، “اللون الأخضر في اللوحة الثانية يعبر عن النمو والمستقبل، وعن الجراح التي مرت بها سوريا، وكيف يمكن أن نصعد من الألم إلى الأمل” هكذا عبرت عن لوحاتها لـ “الثورة”.

حين يعانق السريالي الواقع
تقدّم الفنانة عبير كريمو لوحتين زيتيتين، عناق الروح، وجهان متعاكسان في حالة احتواء، يعكسان دفئا وحبا اللون الأحمر هو لغة العاطفة، لوحة صمت الروح، الأزرق والأخضر يرويان قصة خيبة وألم، ويجسدان حكمة وصمتا أبلغ من الكلام.
هذه المشاركة من وجهة نظر الفنانة عبير مهمة جدا بالنسبة لها، فمن “واجبنا أن نكون فاعلين في إحياء التراث- سواء كان فنا جديدا أو قديما. المكان نفسه منح لوحاتي روحا إضافية.
قراءة مختلفة للوجع السوري
بين الحضور كان قيصر السيد، وهو من المهتمين بالفن والتراث، ويرى في حديثه مع “الثورة” أن أغلب الفنانين يحكون صراعهم الداخلي من خلال اللوحات، بعض الأعمال تحكي عن الثورة، عن المعتقلات، عن النزوح، عن تعب الحياة، الفن هنا يتحدث بلغة الإنسان.
ويضيف السيد أن تنوع المدارس الفنية من شرقي وغربي وعربي، إلى جانب الأعمال التراثية، يعكس ثراء التجربة السورية: مثل هذه المعارض تساعد في نهضة ثقافة البلد.
في زمن النظام البائد كان كل شيء مخنوقا: التربية، الثقافة، الفن.. الآن نبدأ بالتنفس. المكان العريق هنا يمنحنا شعورا كبيرا بأن الفن يمكن أن ينهض من جديد.