تنوء الأمة بما حمَّلتها سنوات عجاف افتقدت فيها الإيقاع، وافتقرت إلى العناوين الجامعة والقضية الحاسمة، بعد أن تدحرجت الهموم وما آلت إليه قضية العرب المركزية، التي كانت على مدى عقود تجاوزت الثمانية، وهي محمولة في وجدان قلم حيثما اتجه، وكيفما التقط الخيط الموصول إلى الهم العربي من زواياه الحادة والمنفرجة التي بقيت مفتوحة على المجهول.
على تخوم الذاكرة، وقبل عشرين عاماً خلت، وعلى مدى ساعات مع زملاء حاضرين، كان الفارق يتجسد في العقل العربي الذي يرفض حتى اللحظة الخلط بين مسلمات الواقع المرهون لطغيان المال، وبين تطلعات وطموحات كتبتها تضحيات أجيال ذهبت، وأخرى تكاد تختفي وتفنى من دون أن تسجل في دفاترها المنسية خلف جدران الظلمة، أحلام العرب وأمنياتهم الضائعة في سراديب التبعية، وفي أقبية البحث عن هوية متهالكة.
من العسير الحديث عن الثوابت في هذه المرحلة كما كانت في حينها، وقد دفعت بها التطورات لتغوص في متاهة من الضياع، حيث تعرضت الرؤية العربية لحالة من الزوغان، مترافقة بحملة هذيان موازية كادت تفيض على الوضع العربي، حيث البوصلة التي كانت ترشد الوضع العربي إلى طريق الخلاص قد تعرضت للتهشيم وفي بعضها تحطمت أو كادت، وبرزت معضلة الضياع كجزء من المشهد العربي، خصوصاً في سنواتها الخمس الماضية.
الأصعب أن تكون مناسبة الحديث غياب الذاكرة الجمعية التي مثلتها ذاكرة الراحل محمد حسنين هيكل، والتي استعصت على السنين ونواجزها وأبدعت فيها محاضر الفعل على مدى عقود خلت، وهي تحفر في الوجدان العربي حيزاً من التأقلم الفعلي مع موسعات ذاتية وموضعية أُدرجت في إطار النسيان المتعمد أو حاولت أن تدرجها في وقت بات فيه كل شيء ممكناً، وتحولت الوجهة والقضية والمصير إلى وجهات نظر، بما فيها الخيانة الموصوفة، تحت توليد قسري لأعداء وهميين، وافتعال معارك أثارت غبارها لمئة سنة قادمة.
ولم تكن محاولة الكفر بالعروبة وقضاياها ولا خطوات الاستعاضة عنها بقضايا جانبية بعيدة عن المشرحة التي عمل فيها مبضع التقسيم، وإن كان عصياً على اختراق تلك الذاكرة وعاجزاً عن التسلل إلى الوجدان الجمعي لأمة لا تزال تنفض بين عقد وآخر ما يعلق بها ولو بعد حين، حيث الفوارق القائمة تشكل حتى اللحظة المنعطف الذي حال دون الانزلاق الكبير في مصير الأمة.
قد يكون من الصعب في هذا الزمن الرديء أن يأخذ الحديث عن الفكر القومي والقضايا العربية والوجدان الشعبي الذي غزا الشيب مبكرا رؤوس أجيالها، فكان الصوت الذي يحضر من خلف هذا الركام بمنزلة الضوء المنتظر في آخر النفق الطويل والممتد إلى أعماق الوجود العربي، حيث «ربيعها» كان يستنسخ «سايكس- بيكو» من جديد.
سيكون من الصعب على القضايا التي حملها قلم الراحل الركون إلى الزوايا المهملة، حيث الحديث اليوم لا يرتبط بما ذهب ولا بما هو قادم بقدر ما يعكس القائم منه، والذي يفتح الهم العربي على المجهول، والقضية على مفارق صعبة تتخللها بين الحين والآخر إشراقة سرعان ما تطفئها نار الهمجية الوهابية المستعرة والأخوانية المستيقظة بأثواب الآخرين وبعداواتهم وأحقادهم المحمولة من كتف إلى كتف.
تطوي الأحداث اليوم ذاكرة امتدت على مدى عقود تسعة كانت نابضة بكل التفاصيل، التي غابت عن كثيرين في زحمة التطورات، وهي التي وضعت نصب أعينها القضايا العربية من منظور قومي لم يخطئ في قراءتها، ولم يتُه في جزئيات خادعة أو ظواهر مضللة وهي التي كانت نقطة فاصلة في التعبير عن نظرة متعمقة لقضايا وتحديات حفلت بها المنطقة.
عن صحيفة الثورة