ثورة أون لاين- خالد الأشهب: ما زلت أذكر جيدا إلى اليوم , وبعيد ثلاثة أو أربعة أشهر فقط من الحرب الدامية التي شنها نظام صدام حسين ضد إيران ولمدة ثماني سنوات منذ مطلع الثمانينيات , سمع العرب كلهم أن الأميركي هنري كيسنجر ومن فوق بارجة أميركية راسية في مياه خليج مشيخات النفط والغاز ,
قال لصحفي ألح على معرفة الموقف الأميركي من تلك الحرب في ذلك الحين .. قال له ومن دون أي تفصيل : انتظر .. ولتسل دماؤهم أولاً !!
بعدها , ظلت دماء العراقيين والإيرانيين تسيل لثماني سنوات متواصلة , ودون أي نتيجة أو مكسب لهؤلاء أو أولئك .. اللهم سوى اتساع مساحات المقابر في البلدين , وما كسبه هنري كيسنجر وإدارته في ذلك الحين . أتذكر ذلك اليوم لا لأقارن أو أقارب بين هذا الحدث وذاك , ولا لأتهم أميركا أو غيرها بما جرى ويجري في العالم العربي وهو واحد وإن تغيرت أوقاته وأدواته , بل لأتساءل , ونحن أكثر شعوب الأرض تبجحاً بالتاريخ واعتداداً وفخراً به .. لماذا يفتقد العقل العربي دائماً وأبداً أي أرشيف تاريخي للأحداث وأبطالها وأدواتها على امتداد جغرافيته , لا بل يتنكر له ويشيح بناظريه عنه وحتى يحتقره ويتعالى عليه .. خاصة في ما يتصل بالموقف من أميركا وتقييم سياساتها ؟
لماذا يصر العقل العربي على تبرئة أميركا حتى حين تعترف هي بجرائمها , وعلى تنظيف صورتها ولو وسختها بيديها , وعلى ادعاء البنوة لها ولو كانت أبوتها له مجرد زنا . لماذا يصر العقل العربي على تكرار محاولاته في تمثل واستلهام «الحلم» الأميركي والثقافة الأميركية كما لو أنه الوريث الشرعي لذاك الحلم وتلك الثقافة … رغم أنه دافع ضريبة الدم الأولى لهما , وعلى الولاء العبودي والعمالة الرخيصة والمجانية لأميركا في كل مكان وزمان وحدث .. وهي التي تخلع عملاءها وترميهم كما تخلع النعال من الأقدام ؟
لماذا يصر العقل العربي على إقفال التاريخ وتعطيل التأريخ كلما تحركت أميركا ولو كان يوم أمس, وعلى تعقيم ذاكرته من كل الوثائق والصور رغم اتساعها التاريخي .. من كل المعلومات والبديهيات , ومن كل المعادلات والإحصائيات بمجرد أن يتمنطق اللسان الأميركي بما يشبه المنطق رغم زيفه المفضوح على الملأ , فكيف لمثل هذا العقل أن يتحرر بذاته إذا كانت كل تعاليم الحرية والانعتاق عجزت عن تحريره من هذا الإله الأميركي , كيف له أن يتمرد وهو فاقد الشيء ومقتضاه في التمرد وعصيان سوط الجلاد , كيف له أن يجيد التمييز بين أشياء لا يعرفها أصلا … ولماذا تأخذنا الدهشة إن هو ذهب إلى التشرذم وفي ظنه أنه ذاهب إلى الوحدة كما قال له الأميركي أو أوحى , وإن هو ذهب إلى الأغلال وفي ظنه أنه ذاهب إلى الحرية كما سخر الأميركي منه وزاد , وإلى سكينة الأموات وفي ظنه أنه ذاهب إلى الثورة كما فلسفها له الأميركي ؟؟
ستسيل دماء العرب طويلاً ومدراراً قبل أن يصحو العقل العربي ضد إلهه الأميركي المزيف !!