أدى انتقاد مسؤولة كندية لسجل النظام السعودي في مجال حقوق الإنسان إلى أزمة سياسية غير مسبوقة بين البلدين، ولا تزال هذه الأزمة مستمرة بالتفاعل بسبب تمسك كل طرف بمواقفه، حيث رفض وزير خارجية النظام السعودي عادل الجبير ما سماه التدخل الكندي في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة،
في حين أكد رئيس الحكومة الكندية جاستن ترودو أن بلاده لا تريد أن تكون علاقاتها مع السعودية سيئة، لكنها ستواصل بقوة الحديث عن قضايا حقوق الإنسان، رافضاً تقديم اعتذار عما جرى مضيفاً أن مواطنيه يتوقعون منه أن يتحدث بشكل قوي عن حقوق الإنسان.
ما من شك أن المسألة أكبر من أزمة سياسية محدودة وأبعد مما تم تداوله في الإعلام، ولو أنها محصورة فقط بما جرى، لانحصرت ردود الأفعال فقط في الجانب الدبلوماسي ولما وصل الأمر بالنظام السعودي إلى درجة فرض ما يشبه العقوبات الاقتصادية على كندا، بعد أن جمدت الرياض العلاقات التجارية مع أوتاوا واستدعت سفيرها من كندا وأعلنت السفير الكندي لديها شخصية غير مرغوب فيها.
صحيفة البناء الكويتية المتابعة للأزمة بين الطرفين قدرت الخسائر الاقتصادية التي ستلحق بالطرف الكندي جراء هذه الأزمة بـ 20 مليار دولار نتيجة تجميد الرياض لعلاقاتها التجارية مع أوتاوا، حيث أعلنت شركة جنرال دايناميكس لاند سيستمز الكندية، أن القرار السعودي أثر على صفقة بيع 928 مركبة عسكرية مدرعة خفيفة وثقيلة جارى تصنيعها للمملكة، بقيمة إجمالية تقدر بـ 15 مليار دولار.
وأضافت الشركة: إن القرار السعودي سيؤدي إلى فقدان ألفين و470 موظفاً جديداً لوظائفهم، كانت الشركة قد عينتهم مؤخراً من أجل تصنيع المركبات العسكرية الموجودة على خط الإنتاج.
كما أفادت صحيفة (فايننشال تايمز)، البريطانية أول أمس، بأن السعودية بدأت بيع الأصول الكندية التي تملكها، في مؤشر على تصاعد الخلاف بين الرياض وأوتاوا.
ونقلت الصحيفة عن مصدرين مطلعين أن (البنك المركزي السعودي وصناديق التقاعد الحكومية أوعزت لمديري الأصول في الخارج بالتخلص من الأسهم والسندات والنقد الكندي، بغض النظر عن التكلفة).
وأضافت الصحيفة أن بيع الأصول بدأ يوم الثلاثاء، مشيرة إلى أن المملكة بهذه الخطوة (تستعرض قوتها المالية والسياسية لتحذير القوى الأجنبية ضد ما تعتبره تدخلاً في شؤونها السيادية).
عند الخوض في أسباب اندلاع هذه الأزمة ـ أي قيام وزارة الخارجية الكندية بانتقاد انتهاكات النظام السعودي لحقوق الإنسان ـ تبدو القضية لها أبعاد أخرى ولا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن جملة تطورات ذات صلة بالعلاقات بين كندا والولايات المتحدة الأميركية التي تشهد العلاقات الاقتصادية بينهما توتراً كبيراً على خلفية الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على السلع الكندية والإجراءات الكندية المضادة، وليس بخافٍ على أحد مدى تبعية النظام السعودي للولايات المتحدة وتنفيذه لأجنداتها حول العالم، وهي أجندات يصعب إحصاؤها، ومنها على سبيل المثال دعم السعودية للإرهاب في سورية والمنطقة لتحقيق مكاسب سياسية أميركية محضة، قيام النظام السعودي بزيادة حصته من إنتاج النفط العالمي في إجراء موجه لخصوم واشنطن وعلى رأسهم إيران وروسيا، شن النظام السعودي حرباً عدوانية على اليمن بأوامر أميركية لا مصلحة له فيها، استعداء النظام السعودي لإيران الدولة الجارة ومحاولة استبدال الصراع في المنطقة من عربي إسرائيلي إلى عربي إيراني خدمة لإسرائيل، سعي النظام السعودي لمساعدة ترامب في تصفية القضية الفلسطينية وفق أجندة صهيونية معلنة والمساهمة بالترويج لصفقة القرن وتسهيلها والضغط على كافة الأطراف للقبول بها.. والقائمة تطول.
على الطرف الآخر تبدو كندا وكأنها استفاقت بالأمس على الانتهاكات السعودية الخطيرة لحقوق الإنسان، فيما سجل النظام السعودي الذي يعج بمئات الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان ليس أقلها إعدام المعارضين له بواسطة السيف، وارتكاب مجازر بشعة ضد الشعب اليمني راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، فيما أدت حربه الوحشية على اليمن إلى تحويل ثلاثة أرباع الشعب اليمني إلى جائعين ومشردين ومرضى تفتك بهم الكوليرا وبقية الأوبئة والأمراض، وإذا ما قارنّا الانتهاكات السعودية التي انتقدتها الحكومة الكندية ببقية الانتهاكات الأخرى سنجد أن لا قيمة لها ولا تستحق حالة التوتر التي وصلت إليها العلاقات بين البلدين.
باختصار لا يمكن وصف ما جرى أو فهمه إلا في إطار واحد وهو تحول النظام السعودي إلى أداة في يد البيت الأبيض لضرب الخصوم ومعاقبتهم، ومن يتابع أداء هذا النظام في العديد من الملفات سيتوصل إلى نفس النتيجة، وخاصة بعد أن اختار ترامب صاحب نظرية (البقرة الحلوب) وضع الأسرة السعودية الحاكمة تحت الضغط باستمرار من زاوية تأمين حماية العرش السعودي المهدد، وذلك بهدف إلزامه بدفع كل نفقات حروب أميركا في المنطقة والعالم، ولعل ما جرى منذ نحو سنة ونصف من حكم ترامب يؤكد دون أدنى شك هذا التوجه الأميركي بخصوص استخدام النظام السعودي كأداة لتنفيذ أجنداته، وليس من باب المصادفة أن يتنطع ابن سلمان أكثر من مرة للتهديد بشن حرب ضد إيران في حين أحجمت إسرائيل وأميركا عن الإقدام على هذه المغامرة الخطيرة.
عبد الحليم سعود
التاريخ: الجمعة 10-8-2018
رقم العدد: 16758