مع رحلة الفنان التشكيلي النحات عبد القادر منافيخي الطويلة، في مجال انتاج وعرض النصب والمنحوتات الفراغية،نجده ينحاز وبقوة نحو المنحوتة التي يضمنها عناصر حروفية، وضمن النهج الحامل ملامح جمالية حديثة ومعاصرة,ولقد أقام عدة معارض فردية،
في حلب وحمص ودمشق، وكان آخرها في مقر اتحاد الفنانين التشكيليين بحلب، خلال العام الجاري,
إضافة لمشاركاته في عدد كبير من المعارض الجماعية الرسمية والخاصة. وهو يعتمد تقنيات التشكيل النحتي الخشبي والحجري بشكل أساسي، ويذهب في نصبه ومنحوتاته، لإظهار العقلنة، والتشكيل الفراغي الهندسي، الذي يتوازى مع ضربات الازميل العفوية، وذلك لتقديم التكوينات الرصينة والمدروسة.
احتفاء وتكريم
ولقد تم مؤخراً تكريمه, من قبل مديرية الثقافة بحلب، بمناسبة الذكرى التاسعة والخمسين لتأسيس الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون، على مدرج دار الكتب الوطنية, تقديرا لمشواره الفني الطويل، ولمساهماته التأسيسية والإدارية والتنظيمية للعديد من المراكز والجمعيات الثقافية والمراسم الفنية، إضافة لدوره في التدريس الفني، في مركز الفنون التشكيلية في مطلع التسعينات.
ولقد استطاع عبد القادر منافيخي وخلال تجربة طويلة، كشف غنى حركة الحروف العربية، وقدرتها على التعبير عن المعنى الروحاني والجمالي، والتواصل مع تطلعات الحداثة التشكيلية، وبذلك فهو يتطلع دائماً إلى بناء منحوتة تلامس جوهر الحضارة العربية، وتنقل انفعالاته الحرة، بعيداً عن مأثورات التقاليد، وحين يجعل حركة الحروف الحرة تخترق شكل المربع أو المستطيل أو المخروط، فإنه يذهب إلى ترجمة انفعالاته الخاصة وتوجهه الحروفي الجمالي الخارج على النظام التقليدي، وبالتالي فكل شيء في منحوتته يأتي بشكل عفوي، التكوين الهندسي والإيقاع الحروفي والاسترسال الوجداني، وهذا ما يتطلبه العمل الفني الحديث والمعاصر، فحين يحضر الاحساس يحضر الصدق والتميز.
وفي بعض منحوتاته نجد ما يشبه المربع أو المستطيل، حيث يجعل حركة الحروف والكلمات تتداخل مع الشكل الهندسي أو تبرز من خلاله، وبذلك فهو يعمل في هذه المجموعة, لإيجاد المزيد من التوافق والمواءمة، بين الاندفاعات العفوية والرقابة العقلانية، رغم كل ما يبرزه من تحرر في حركة التشكيلات والخطوط، من تلك السلطة الهندسية، المعتمدة ضمن بعض عناصر المنحوتة، وهو حين يعمل على تحويل الحروف، إلى دلالات روحية وجمالية, تتنوع بايقاعها البصري من منحوتة إلى أخرى، فإنه يعكس هواجس غنائية أحياناً (النقش في ايقاعاته المتحررة) في حين تبقى الأجزاء الأخرى، محافظة على سطح ونسيج الكتلة الخام القادم من تشكيلات الطبيعة.
أفقية وشاقولية
وهو يقدم ايقاعاته الحروفية بحرية وعفوية واختزال يثير التساؤلات، حول مسلكه التعبيري والتقني, ويصل في احيان كثيرة، إلى حدود التركيز لإظهار التتابع الحروفي على قطعة خشبية طويلة، متعامدة مع خط الأرض أو شاقولية، في حين يعمل في أحيان أخرى على قطعة طويلة تتوازى مع خط الأرض وتأخذ بالتالي حركة أفقية, أما نصبه الحجرية فتأخذ شكلا بيضويا، أو كتلتين متلاصقتين، تظهر من خلالهما حركة الحروف والكلمات الكبيرة, وقد تشكل الحروف جسد المنحوتة النصبية, رغم أنه يصل إلى درجة الإحساس بروح الحرف العربي، والجمع في نهاية المطاف بين العناصر والرموز والدلالات الذاتية، في ايقاعاتها الهندسية والغنائية (حيث يجعل الحرف احياناً يبرز من خلال المستطيلات والمربعات الفراغية المنسابة نحو الأعلى في الهواء الطلق).
ولاشك ان الطابع الثقافي الروحي، اي طابع تقريب الفن من الرمز الديني، هو اكثر ما يميز تجربته، ويعمق مرتكزات بحثه التشكيلي والجمالي والتقني. فالتشكيل بالنسبة له هو مدخل لالتماس الايقاع الذي يشكل جوهر الوجود,هو الاشارة الاولى التي تومئ بها كتاباته, وهذه الرؤى تجعل تكويناته مكتنزة بالرموز الدينية والمعطيات الروحية,وتجعل المنحوتة تبتعد في النهاية مسافات شاسعة عن المثالية الكلاسيكية والقواعد الحروفية الاتباعية.
في الملجأ
ولقد ذاق مرارة التهجير خلال سنوات الحرب المدمرة، وتعرض منزله ومحترفه في حلب للاحتلال من قبل الجماعات الإرهابية المسلحة، ورغم كل الظروف والعقبات التي واجهته، في تلك المرحلة، لم ينقطع عن مواصلة بحثه الفني، حتى في أحلك الظروف واصعبها، حيث واصل النحت في الملجأ، وهذا دليل عشق مزمن, وإيمان راسخ بدور الفن, وبقدرته على التعبير عن موقفه وثقافته وتوجهه الفكري والروحي.
وبالرغم من أنه يعمل في إطار اظهار ايقاعات الخطوط والكتابات العربية، في العديد من منحوتاته، فهو في النهاية يشحن منحوتته بمزيد من العفوية والتلقائية، ولذلك فهو لايدخل في إطار التشكيل الحروفي البحت، المجرد من الدلالات اللغوية، وبمعنى آخر مهما استغرق في رحلته وكتاباته الحروفية المتجهة في اكثر الاحيان نحو مصدر الخلق والروح، فإنه في النهاية يهتم كثيراً بالمعنى الواضح والمقروء، ويركز لإظهار روح الحرف وإشاراته وحركاته المترسخة في الذاكرة والوجدان كبصمة لاتغيب.
هكذا يمارس حريته المطلقة في البحث التشكيلي والتقني والجمالي، كأن يجعل ايقاعات الحروف محصورة في مساحات محددة أفقية أو شاقولية، في وقت يستطيع فيه أن يمارس حريته المطلقة في منحوتات أخرى، و حين تشكل كتاباته هيكلية المنحوتة، فإنه يخدم هذه المقاربة الجمالية، أي يكتب الحروف بطريقة فنية وتشكيلية حديثة ومعاصرة.
أديب مخزوم
facebook.com adib.makhzoum
التاريخ: الجمعة 12-10-2018
رقم العدد : 16809