ربما من الحقائق التي يجب أن تكون ماثلة أمامنا, ونحن نتحدث عن شهرزاد, حقيقة غابت عن الكثيرين, ألا وهي أنها بالفعل هي أول طبيب نفسي في العالم, استطاع عن طريق البوح والكلام أن يمارس دوره في إعادة السلوك الإنساني إلى طبيعته, ويروضه, ومن مبدأ أن الكلمة فعل حقيقة, ليست مجرد ثرثرة ولغو, قبل فرويد, وقبل سكينر وكتابه المهم جدا تكنولوجيا السلوك الإنساني.
لقد تنبهت شهرزاد (الراوي) إلى أهمية وفعل الكلام المباح وغير المباح, وكانت ألف ليلة وليلة السفر الإنساني المشترك الذي لايمكن لأي امة أن تقول إنه كان إنجازها, صحيح أن بوتقته عربية, لكن عناصر التفاعل فيه, تداخل الحكايا مزيج من العولمة التي قادها العرب أيام زهوهم.
ما نريد من هذا الاستهلال, لفت الانتباه إلى أن المشهد الروائي العربي في معظمه الآن بوح شهرزادي, مئات الروايات التي طفحت بالكلام المباح وغير المباح, وتصدرت المشهد الثقافي, في سورية وغيرها من الأقطار العربية, وإن كنا لانستطيع متابعة ما نشر خارج سورية بدقة, لكن ما ينشر على الصفحات ومواقع التواصل يدل على أن المشهد الروائي العربي بعمومه الآن يغلب عليه البوح الشهرزادي, بعنفه, رقته, هبوطه, صعوده, ماله وما عليه, يهمنا في هذه العجالة الإشارية أن نقدم لمحات عن شهرزاد السورية.
شهرزاد السورية
خلال الحرب العدوانية على سورية, كانت المرأة الأم والزوجة والابنة والأخت أكثر من دفع الثمن, بغياب الزوج والابن والأخ والصديق, فالنار التي اصطلى بها الجميع كان بوحها, وقعها, لسعها أكثر حضورا عند المرأة المبدعة, وهذا يعود لأسباب كثيرة منها كما أسلفنا حالها المجتمعي, ناهيك بطبيعتها وتكوينها الأكثر قدرة على التفاعل والتعبير عن المشاعر, وربما القدرة على الخلق, بما فيه الخيال الخصب, هذا كله جعلها تتسيد المشهد الروائي السوري, بل يمكن القول إنها كانت أكثر قدرة على التقاط ما يجري من مئات من تورموا وانتفخوا, وكانوا وراء جدران الانتظار, عشرات الروايات التي كان الجرح السوري موضوعها, بشكل مباشر أو غير مباشر صدرت في سورية, وربما يزيد العدد عن الثلاثين, لا معلومات دقيقة, ناهيك بكاتبات القصة القصيرة, وهن بالتأكيد في رحاب القص الانثوي الروائي, وربما يطرح السؤال نفسه: كيف التقطن أنفاسهن لكتابة الرواية, وهن في أتون النار؟ أليس فعلا إبداعيا متميزا, يحق علينا توجيه الشكر لهن عليه..
هذا العام 2018 وصلتني أكثر من رواية أنثوية, هن على التوالي: قمر موسى لغنوة فضة.. مضاجعة الموت لفاطمة خضور.. طفح أنثوي لليزا خضر.
القاسم المشترك بين هذه الروايات اللواتي ينتمين جغرافيا إلى سورية, ولكنهن يتوزعن كل واحدة من محافظة, قمر موسى (اللاذقية)، مضاجعة الموت (حماة)، طفح انثوي (طرطوس), القاسم المشترك هو الألم المنغرس حتى آخر قطرة دم, وسطوة الهروب من المواجهة, أحيانا من الأهل, احيانا أخرى من الرجل, كما في رواية قمر موسى الحب في زمن الحرب, زمن الزيف الذي تمارسه الكثير من الطبقات المدعية الرقي والتنور.
أما في مضاجعة الموت, فالحرب والرجل وجهان لعدو واحد يغزو المرأة التي تترك على قارعة السبي, ليس بالضرورة السبي الجسدي, فقد يكون هذا أسهل أنواع السبي أمام الموت ألف مرة بوحدة قاتلة تمزق كل خلايا الروح والدم, مضاجعة الموت على الرغم من مباشرتها بطرح العديد من أسماء الشخصيات بشكل مباشر, ومازالوا على قيد الحياة, لكنها تلتقط من يومياتنا الدهرية صورا كل واحدة منها تصلح لأن تكون رواية, أما العنوان الجارح الحاد, الموحي (مضاجعة الموت) ما يشي به من دلالات ومعان لا تحصر بمعنى سلبي وإيجابي, بل بكليهما معا, المضاجعة فعل الخصب والحياة, والمضاجعة رحيل مع الموت, والحرب مضاجعة لنا جميعا, وهروب من يدعون الرجولة معاقرة للخيانة.
أما طفح أنثوي لليزا خضر, فهي الأكثر نضوجا بين ماقرأته من روايات أنثوية, ربما لأن الكاتبة استفادت من تقنيات الشعر بالتكثيف, والقدرة على التقاط المدهش بصور سريعة, تخز الوجدان, وتلتقي مع مضاجعة الموت بقضية الفقد, بالهجر أو الطلاق, أو غير ذلك, ليزا خضر في طفح أنثوي استطاعت أن تبتكر عالمها, شخصياتها دون إغواء المعرفة الفجة المباشرة, بل يغريها هذا التيه في السرد ليقودك إلى غواية الاكتشاف الذي تحاول أن تصل إليه قبل ولوجه, شهرزاد السورية تدون وتسترد لياليها, بطلها شهريار الزمن, وجعها الفقد, حرفها من نور, ولغتها أنثوية حبلى بالدلالات بغض النظر عن الطفح الذي أرادته ليزا خضر, أو مضاجعة الموت, أو قمر موسى, فاللغة أنثى والليالي السورية بكل ما فيها أنثوية, الم تنقذ سورية العالم من جنون شهريار التكفير والقتل, لا مجال للمقارنة..
ديب علي حسن
d.hasan09@gmail.com
التاريخ: الأثنين 15-10-2018
رقم العدد : 16811