بعض الفضائيات العربية التي تحظى بنسب مشاهدة عالية لا يستهان بها ذهبت بعيداً في تحررها، فما عادت بعض البرامج الاجتماعية الجريئة التي تعرض على شاشتها تقف عند الخطوط الحمراء،
ناسية أو متناسية أن هناك مجتمعاً عربياً نشأ على قيم خاصة به يشاهد ويقيّم ما يُشاهَد.. وينتقد، أو ينقد سلباً أو إيجاباً.
إنها ظواهر قد تنفجر كما فقاعة صابون.. أو أنها قد تصبح صلبة بحيث تتمدد، ولا تنفجر لتصبح نموذجاً لغيرها مشجعة على الاقتداء بها.. وهنا تكمن الخطورة في أنها تفتح باباً، أو أنها تصنع مثالاً لغيرها بحجة الجرأة غير المسبوقة، والتمرد على المألوف، أو أنها تكسر القوالب الجامدة للمجتمعات بحجة التطور والتماشي مع العصر.. وما هي بالجرأة في حقيقتها إذا ما تجاوزتها الى حد الوقاحة، والابتذال.
والأمر لا يقف عند هذا الحد بل إنه يقفز الى ضحالة الفكر، والثقافة إذ ينحصر اهتمام مثل تلك البرامج بكل ما هو سطحي وتافه.. وتستغرب في نهاية كل حلقة من كم الأسماء التي شاركت في انتاج البرنامج ليظهر في المحصلة الى جمهور عربي من: إخراج، وتصوير، ومكياج، وميكساج، وأزياء، وإعداد، وتقديم، ومونتاج، وممولين، ورعاة، ومساعدين، الخ… وكم لا يستهان به من الأموال المصروفة ولعلها من مصادر معروفة، أو غير معروفة.. ويبقى الهدف من مثل هذه البرامج التي تسقط حتى القاع هو فتح الباب، أو تركه موارباً لا فرق.
والمؤسف أكثر أن المشاركين في برامج كهذه من الجنسين هم من أعمار صغيرة لم تتجاوز العشرينيات.. ليخسروا كثيراً وسط هذه التفاهات، والترهات.. وليكونوا في الوقت ذاته نموذجاً لغيرهم في الجرأة، والانفتاح غير المسبوقين ما دامت هناك جهات من المفروض أنها مسؤولة وهي تتبني هذا السفه، وتخرج به الى العلن.. في تحدٍ سافر لقيم المجتمع، وفي محاولة فاشلة للتشبه بالغرب، وبافتعال ومبالغة غير مقبولة في المظهر، وفي التصرف.. أما الفكر فقد غاب أو غُيّب تماماً حتى لا يناقش ما إذا كان هذا الذي يُقدم هو جائز أم ليس جائزاً.. أو أنه يرتقي بالمشاهد، أم أنه فقط يثير الغرائز.
وعلى الرغم من اعتراف أصحاب هذه البرامج أنفسهم بالنقد السلبي لها، إلا أن الإصرار على متابعتها لا ينهزم بحجة بث الافكار الجديدة بين الناس، وفتح الباب لكل ما كان غير مسموح به على قناة فضائية يشاهدها كل الناس من مختلف الفئات، والأعمار.
وإذا كانت الرقابة تسمح بذلك فإن الذوق العام لا يسمح.. والاعتراض هو من حق المشاهد، ودون أن يصل اليه جواب: انتقل الى قناة أخرى إذا كنت غير راضٍ عن قناتنا.. لأن واقع الأمر في مثل هذه الأحوال لا يتعلق بفرد، أو بعدة أفراد بل إنه السم الذي يُنفث ليسري في المجتمعات.. وما بالنا بمجتمعاتنا التي توصف على أنها فتية، أي أن غالبيتها من ذوي الأعمار الصغيرة التي لم تبلغ سن الكمال بعد.
ألا يكفينا ما يصل إلينا من ألعاب إلكترونية تستلب العقول، ومن أفلام غربية تدس السموم، وما تتيحه مواقع شبكة المعلومات مما يجوز ومما لا يجوز، وما تفرضه العولمة من تحولات، وما تأتي به الأعوام من اختناقات اقتصادية تطال أغلب البلدان في مختلف بقاع العالم، حتى تهتز منا الأخلاق، وتسقط القيم بحجة محاكاة الغرب في جرأته، وانفتاحه بينما الغرب يحجب عن قنواته الرسمية مثل هذه الترهات التي تهبط بجمهوره، وربما أساءت اليه، لأن هدف الإعلام واضح وهو الارتقاء بالجمهور من عامة الناس، وليس الهبوط الى ما يريده بعض الناس.
ومهما حاولتَ مع كثير من حسن النوايا أن تجد مبرراً، أو قبولاً، أو سبباً للزج بمثل هذه البرامج الخارجة عن المألوف، وقد تكون الحجة لها أنها بقصد التسلية، والمرح، أقول إنك لرداءتها لن تعثر سوى على جواب واحد ألا وهو تقريب أفكار بعينها للمجتمعات حتى تبدأ بتقبل مرحلة تغيير جديدة في قيمها، وأخلاقها، وربما معتقداتها أيضاً.. وهي في المحصلة نحو الأسوأ، وليس الأفضل.
وأجيالنا بحاجة أكثر من أي وقت مضى لمن ينهض بها فكراً، وعلماً لا هزلاً، وانحداراً وخاصة أن الأزمات الاقتصادية، والتعليمة، ومشكلات الهجرة تقرع أبواب أغلب الدول العربية.. والمجتمعات النامية هي الأحق باستثمار إمكانات شبابها من أبنائها، وبناتها، وهي التي أنفقت الأموال في سبيل التعليم، والرعاية، لا ليأتي فيما بعد ما يهدم ذلك البنيان، أو على الأقل يهز أساسه.
وأقول لتلك القنوات إذا ما جاءت بالمبررات، وكما يقال: إن كنت تدري فتلك مصيبة.. وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم.
لينا كيلاني
التاريخ: الجمعة 7-12-2018
الرقم: 16855