كان خريفا ما زال مبلولاً ببقايا الصيف حين انتظرتها على قلق، بلهفة وتوق، مرتين ثلاثاً، كل مرة أتلهف لرؤية من ستكون محطة جديدة تعيد الألق والعمر والنسغ، وها قد مضى أكثر من نصف عقد بقليل على الانتظار، وعادت لتنتظرني كل يوم، تضبط إيقاع العودة لتهل مريم ومايا ( المريمان ) إلي بصوت واحد: جدو بدنا قصص، تفران مع الصفحات الجميلة التي تتصفحها مايا نظراً، وتلهو مريم تهجئة ونطقاً بالكثير منها، الانتظار الذي صار متبادلاً بيننا، تحول إلى الكثير من المشاكسات .
أكتشف أن تهوى الرسم، تخربش بخطوط تحولها إلى ما يشبه الخطوط المتعانقة، تلتقط اللحظة التي تريد أن تعبر عنها برؤية طفولية بريئة، وهل من أحد في هذا الكون أكثر براءة من الطفل، ألا تذكرون تلك الحكاية الرائعة عن الامبراطور، وحياكة الثوب السري والسحري، حتى جاء الطفل الصرخة وكان مدوياً صوته حين جهر بالحقيقة: الامبراطوار عارٍ، نعم لقد كان عارياً ، والجمع من حوله ينافقون، كلهم يدعون أن الثوب رائع.
أول أمس على وسادة التعب والإرهاق، وفي هذا الجو المدلهم غيماً وقسوة وبرداً ووحرماناً من كل شيء و كانت لي استراحة قليلة، لا أدري ما الذي أغرى حفيدتي أن تستل ورقة وتقول لي: سوف أرسم و بدأت الشخبرة، هذه شجرة الحياة الضاحكة، وتلك صورة للعائلة كما تقول، وكما في العامية، من بيده القلم لايكتب نفسه من الأشقياء و رسمت أباها وأمها، وأختها الصغيرة، كان لافتاً أنها أعطت نفسها حجماً أكبر مما هي عليه، ولكنها لم تكن منصفة مع أختها، واصرت على إظهار الاب ضخماً و شامخاً يمسك بيدي طفلتيه، أسرة تبدو متلاحمة كما أرادتها (مريم) ومن يقرأ دلالات رسوم الأطفال يجد الكثير من الجماليات والتعبيرعما يفكرون به .
فجأة تلتفت نحوي، جدو: هل أرسمك ؟ وما بين التردد والقبول كان جوابي : لا، جدو، لقد رسمتني سابقاً وكنت قادرة على التقاط أشياء جميلة وهي أقرب إلى الكاريكاتور لكن كل من رأى ما رسمته أكد ان ثمة شبهاً كبيراً بيني وبين ما رسمته، تعود إلى السؤال: جدو سوف أرسمك، هل أفعل ؟لا …
وبعيد لحظات كانت أقرب إلى غفوة تائهة مع برد ينخر الجسد، أسمعها تضحك وتهمس لجدتها بشيء ما و تتقاسمان الضحكة، استنفر لمعرفة ما يحاك، تخفي ما رسمته، لكنها تعود راضية، خذ جدي هذه صورتك، لقد رسمتك، اتمعن بما بين يدي ثمة شيء غريب، أتحسسه، لا أعرفه، تعود للضحك، جدو: لقد رسمتك كما الفأر ..!!!!!!!!!!!
فأرة، نعم فأرة، ولماذا هكذا، يدهشني الجواب: هذا الغطاء الذي تتلفع يظهرك كما فأرة تريد أن تختفي، أن تهرب، لكنها لا تعرف الطريق، فثمة من يرصدها، يتربص بها، أصمت، وهل تعرفين لماذا اتلفع بهذا الغطاء الذي جعلني أبدو كما لو أني …
يا صغيرتي: هو الشتاء الذي طرق الأبواب، فلا مازوت، ولا غاز، ولا كهرباء، يا صغيرتي ثلاثة أعوام لم نستطع أن نحصل على ما يقال إنه حصتنا من المازوت، تدبرنا كمية قليلة، لك ٍولأختك، وهذا الشتاء قاس لا بأمطاره، لكن بما نراه، بما يحصل، كم هي السماء رحيمة بنا، كأنها اكتشفت عجزنا، فخففت وقع البرد، يا صغيرتي أنتظرتك دهرا و وعلى مفترق دروب الشتاء صقيع وصفيع، أمره وعودهم الخلبية، إنها براءة الطفولة: رسمتك فأراً خائفاً …
ديب علي حسن
التاريخ: الجمعة 7-12-2018
الرقم: 16855