تشهد دول المنطقة تحديات وجودية وغير مسبوقة تتعلق بالهوية والانتماء، عبر النفخ في محرقة الأديان والمذاهب والأعراق، ومحاولات نسف الهويات الوطنية والجامعة، والسعي لتشكيل وعي زائف لحقيقة وجودنا الحضاري العروبي، ولا شك أن مواجهة ذلك التحدي الذي تشتغل عليه تيارات ومثقفون بشكل منظم وهادف له مغذياته وأجندته يستدعي جهداً ثقافياً وفكرياً له سمة الاستراتيجية واسعة الحوامل والطيف متعددة المرجعيات ولكنها متفقة على الأهداف الكبرى وبالنظر لطبيعة تلك المخاطر التي تتهدد أبناء المنطقة ودولها وكياناتها السياسية ووجودها الحضاري وهويتها الثقافية تبرز أهمية إقامة ملتقى فكري قومي يمكن أن يشكل النواة والإطار لتشكيل هذه الكتلة الفكرية التاريخية لتكون الحامل والرافعة الثقافية والاجتماعية له بهدف تشكيل وعي وطني وقومي بطبيعة ومخاطر هذه المشاريع الهدامة ومواجهتها وإسقاطها والحيلولة دون سيطرتها على الوعي الجمعي للجماهير بالمعنى الواسع للكلمة لأن الخطابات المضللة للرأي العام لا تتحرك إلا في مساحات الجهل والأمية السياسية.
إن المعارك الثقافية مع القوى التي تناصب العداء للعروبة والهويات الوطنية الأصيلة والشعوبية الجديدة ليست بالمسألة الجديدة فالهوية القومية كانت محط استهداف على الدوام ولعل الفكرة الإخوانية كانت في الأساس ولدت لمحاربتها بل وإنكارها وتسفيهها للحيلولة دون قيام الدولة العربية الواحدة بعد الخلاص من السيطرة العثمانية التي استمرت لأكثر من أربعة قرون وانتهت بتمزيق الأقطار العربية وتقسيمها وتجزئتها بما يخدم مصالح القوى الكبرى ولاسيما بريطانيا وفرنسا أكبر قوتين استعماريتين في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين .
إن الانتماء الوطني والهوية الوطنية لا تتعارضان مع حقيقة أننا ننتمي إلى فضاء قومي عروبي يشكل بالمعنى (الأبستمولوجيا) زمناً ثقافياً وتاريخياً وحضارياً، لا بل إن الفكرة الوطنية وتعزيز الهوية الوطنية مقدمة ضرورية للانطلاق نحو الفكرة القومية الجامعة ولا سيما أننا في عالم يتجه نحو التكتلات الكبرى أمام زحف العولمة واستحقاقاتها إضافة إلى الاستيقاظ غير المسبوق (للهوياتية) الضيقة التي تستهدف نسف الهوية الوطنية واستدعاء انتماءات متنحية وظنينة ومتخيلة لتكون البديل الزائف والمزيف عن هوية أصيلة ومتجذرة.
إن اتخاذ ما واجهته بعض الأقطار العربية من عدوان بفعل الإرهاب وما خلفته الفوضى الخلاقة من تشققات وندوب في الجسد الوطني بفعل ما سمي الربيع العربي والدور القذر الذي اطلع به بعض الحكام العرب في ذلك لا يتحمل تبعاته أبناء الأمة العربية وفكرة العروبة فهؤلاء الحكام هم في الأساس أدوات طيعة بأيدي القوى الخارجية وينفذون ما يؤمرون به فهذا هو أحد أهم أدوارهم الوظيفية ومبرر وجودهم في السلطة أساساً ما يعني أن العروبة لا تختصر أو تتمثل بهم ولطالما أكد ذلك خطابنا السياسي والثقافي خلال أكثر من نصف قرن ولعل أدبيات البعث الدليل الحي على ذلك سواء في منطلقاته النظرية أم مؤتمراته الدورية التي تضمنت تحليلاً للواقع العربي على المستوى القومي وطبيعة التحديات التي تواجه العمل العربي المشترك مع توصيف دقيق للقوى التي تعارض الفكرة القومية سواء كان ذلك على مستوى الحكام أم التركيبة الطبقية.
إن انتماءنا القومي العروبي ليس خياراً بل هو حقيقة متجذرة في وعينا وثقافتنا الأصيلة فالفكرة العروبية فكرة حضارية جامعة تستوعب أشكال التنوع وتحترمه وتفسح له المجال كي يعبر عن خصوصيته المنسجمة والمتناغمة مع الفضاء العام، لا بل إن التنوع هو إغناء للفكرة الجامعة ودليل على حيويتها وثمة أمثله عديدة في كل دول العالم تؤكد ذلك ولعل مفهوم الحرية والديمقراطية وفكرة المواطنة والعدالة والحق في التعبير عن الذي يكفل تكريس حالة انسجام وطني حقيقي يدفع باتجاه فضاء قومي واسع بعيد كل البعد عن الإقصائية والتعصب والشوفونية بكل صورها وأشكالها يتساوق مع رفض لكل أشكال الخرائط الضيقة المشظية للمكون الكلي المتناغم والمنسجم تاريخياً.
د.خلف علي المفتاح
khalaf.almuftah@gmail.com
التاريخ: الأثنين 24-12-2018
رقم العدد : 16868
السابق
التالي