عندما يشرِّع الكاتب قلمه، ليُحيي الحياة بإبداع حرفهِ الرحيم، لا بدَّ أن يكون ما يكتبه أشبه بالأضواء الكاشفة، تتغلغل في عمقِ هذه الحياة، وتكشف كلِّ ما فيها من ظلامِ العقل والفكر الرجيم.
هذا ما يفعله أغلبية الأدباء في زمنٍ لا شيءَ فيه يحيا إلا مفردات تسردُ أوجاعها بإبداعها. هذا ما فعله أيضاً الكاتب والروائي الجزائري (مصطفى بوغازي) في روايةٍ ضجّت بحكايا الاستلاب. استلابُ كلّ ما جعل بطلة روايته التي خانها حتى جسدها، لا تحيا إلا بقلمه الذي دوّن قصتها (امرأة على قيد سراب).
إنها رواية النفس البشرية العليلة بجهلها وجشعها وطمعها.. رواية كلّ امرأة حملت ومُذ طفولتها آثام بيئتها ومجتمعها وأسرتها. الأسرة التي سعى كلّ من فيها للبحثِ عن المال، وعبر أساليبٍ استفاض (بوغازي) في فضحها، وعلى لسانِ بطلته التي وجدت بأن والدها الذي تنكَّر لكِلِّ القيمِ والأخلاق، كان قد انساق: (انساق أبي يجرفهُ تيار المادة، فآثر الاستقالة من التدريس، ليتفرَّغ كلياً لزبائنهِ في بيتنا الجديد الذي فقد حرمته وأصبح خلية مصغَّرة للمجتمع، ومحلاً غير رسمي لاجتماعات بعض الرجال الانتهازيين والفاسدين، ولا ينفي البعض عن بيتنا، بأنه جحر للشعوذة والاحتيال، كما تعقد فيه صفقات مشبوهة في السياسة والمال).
حتماً، هو الفكر الموبوء بإرثِ جهله، وقد تقصّد الكاتب أن يفضحه عبر صرخات أنثى، حالها كحال الكثيرات ممن يعشن تحت وصاية مجتمع ذكوري يبالغُ في كبتها وظلمها واضطهادها وحرمانها إلا من هيمنته وقسوته وتعصّبه وأنانيّته وشهوته..
نعم، هذا ما يفعله المجتمع المتخلف الذي ولأنه كان سبباً في حرمان والدة بطلة الرواية من الحب والاختيار، مثلما في استغلالها واستنزف أحلامها باستمرار. لأنه أيضاً كان سبباً في اضطهادها بطريقةٍ أجهضت إلا ذاكرتها، كان لا بدَّ لابنتها من الاحتفاظ بآلام هذه الذاكرة وحكايتها: (جدي لا يترك شيئاً للمفاجأة كما تقول أمي، وهي تصدرُ ضحكات تخفي وجعاً تتمرَّد بين طيَّاته دمعات لا تعرف ماهية المسافة الفاصلة بين الفرح والألم حين تقول: (كنَّا نسمِّيه في الغياب (عزرائيل) وكثيراً ما تجهش بالبكاء، وتختنق أنفاسها مع كلِّ مظهرٍ من مظاهرِ الإرهاب الذي كان يمارسه عليها).
كلُّ ذلك وأكثر، في رواية لا يمكن لكاتبٍ أن يصف وجع ويأس وخيبة ومعاناة بطلتها، إلا إن امتلك عيناً ثاقبة وراغبة، بتعرية المخفي والمستور في مجتمعه وواقعه.
لا شكّ أن ما فعله (بوغازي) الذي ومثلما رأى بعينِ يقظته واقع بطلته، رأى بعمقِ حرفه وسطوعِ هدفه، بأن لا شيء يخلِّصنا من هذا الواقع المتخلف والفاسد والموجع، إلا ما تراءى له فقال عنه: (في ظلِّ هذا الوجع القاسم للظهر، وقرابين الألم في تتابعها على مسح حياتنا، يتراءى لي الريف الجميل، بنقائه وصفائه، وطيبة أهله الكرماء).
يبدو بأنه أراد لفت انتباهنا إلى أهمية التمسك بالناصع والنقي والجميل والإنساني في حياتنا. أراد لفت انتباهنا إلى ذلك، بعد أن رأى مقدار ما استشرت فينا أنفاس الحقد والكراهية والعقد والأمراض النفسية. أيضاً، الانحراف والتناقضات والاستغلال والابتزاز الذي تفاقم حتى لدى المتعلِّم الذي اكتشفت بطلة الرواية بأنه يتقوقع في شخصية: (اكتشفت أنه يتقوقع في شخصية، جمعت كل الصفات في كفة واحدة، من كذب ونصبٍ وخداع، كما يعاني اضطراباً نفسياً يترجمهُ في إرهابٍ نفسيٍّ على غيره، ولا يتورَّع عن استعمال العنفِ بالضرب..).
ببساطة، هي سياطُ مجتمعاتِ ستبقى تجلدُ نفسها، قيمها، عقلها، قلبها، أحاسيسها، أنوثتها وأمومتها.. أنوثة الحياة وأمومة الأرض، وأعتقد بأن ما قصده الكاتب ومثلما ختمَ بتشييع بطلته إلى مثوى استلابها الأخير بعد أن تكالب عليها الذئاب، ختمَ أيضاً، بوصيتها التي أحيتها، وعبر رواية هي ذاكرة (امرأة على قيدِ سراب).
أحيتها لأنها يجب أن تحيا، وسواء بابنتها أو ذاكرتها، الابنة التي ترمز إلى ديمومة التجدد والحياة، والأرض التي هي ذاكرة الخصب والعطاءات.
أخيراً نقول: (مصطفى بوغازي) كاتب وأديب وإعلامي وناشر جزائري، يسعى دوماً لاستقطاب كل ما يرتقي بالواقع ويجعله أكثر جدوى وفعالية، يرصد الحياة وتقلباتها ويجتهد لجعلها محكومة بالمحبة والعقل والإنسانية.
من أعماله القصصية (أحلام الفجر الكاذب) والشعرية (تأوهات في زمن النرجس) والروائية (رماد الذاكرة المنسية) و(امرأة على قيد سراب).. له أيضاً، الكثير من الدراسات الفكرية والنقدية.
هفاف ميهوب
التاريخ: الخميس 10-1-2019
الرقم: 16881